تعويم العملة: الفوائد، المخاطر، وتجارب الدول الناجحة
تعويم العملة اتّجاهٌ مصرفيٌّ عالميٌّ يُشجّعه صندوق النقد الدولي بشدة والمؤسسات المالية العالمية، فهل يصلح لجميع الدول؟ وكيف يتم هذا الإجراء بأقلّ قدرٍ من الأضرار على الاقتصادات الضعيفة؟
تعويم العملة من أنظمة سعر الصَّرف المتبعة عالميّاً، والتي تنتهجها الكثيرُ من الدّول لما لها من فوائد قد تفوقُ في الكثير من الأحيان سعر الصَّرف الثَّابت أو المُدار، ويعتمدُ سعر العملة للبلد وقتها على العرض والطَّلب مقارنةً بالعملات الأخرى، وليس على ما تملكهُ الدّولة من أصولٍ، فلا يكون السّعر محدَّداً بنطاقاتٍ تجاريَّةٍ أو إقليميّةٍ أو ضوابط حكوميّةٍ.
فكيف تتَّخذ الدُّول إجراءات تعويم عملتها؟ وكيف تستفيد فعليّاً من هذا الإجراء مع تقليل مخاطره؟ ومن أكثر المستفيدين من هذا الإجراء في الدَّولة؟ وهل بالفعل يدعمُ الاقتصاد؟ هذا ما سنتعرَّف عليه في الأسطر المُقبلة.
تاريخ تعويم العملات
تاريخياً استقرَّت الأنظمة الكبرى على تعويم العملة بدءاً من عام 1971، وجاء هذا بعد فشل نظام كلٍّ من المعيار الذَّهبيّ الذي كان متّبعاً قبل الحرب العالميَّة الأولى وربط العملات بالدُّولار، والذي انطلق عام 1944 مع مؤتمر "بريتون وودز" في محاولةٍ لتحقيقِ الاستقرار الاقتصاديِّ العالميّ وزيادة التَّدفُّق التّجاريّ العالميّ وتحديد القواعد التي تحكم التَّبادل الدَّوليَّ للسّلع.
فقبل هذا التَّاريخ وتحديداً بين عامي 1870 و1914 كان هناك سعر صرفٍ عالميٍّ ثابتٍ ومربوطٍ بأسعار الذَّهب، وقد تحكَّمت به القوى الكبرى وقتها، والتي تمثَّلت في كلٍّ من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فكانت قيمة العملة المحلّيَّة ثابتةً عند سعر صرفٍ محدَّدٍ لأوقيَّة الذَّهب، وكان هذا يُعرف باسم المعيار الذَّهبيّ، وكان يسمحُ بحركة رأس المال دون قيودٍ، إلَّا أنَّ القوى العالميَّة استغنت عن هذا النّظام مع بداية الحرب العالميَّة الأولى.
ولكن مع مؤتمر بريتون نشأ نظام صندوق النَّقد الدَّوليّ، وأصبح الدُّولار الأمريكيُّ العملة الاحتياطيَّة في العالم، بسبب استقراره ونتيجةَ الطَّلب المُتزايد عليه، لترتبطَ العملات المختلفة بسعر الدُّولار الرَّسميّ، والذي ثبَّتته أمريكا عند 35 دولاراً لأوقيَّة الذَّهب، وفي هذا الوقت كان سعر الصَّرف الثَّابت هو النّظام الرَّسميُّ.
إلَّا أنَّه في عام 1971 لم يعد الدُّولار الأمريكيُّ قادراً على الاحتفاظ بقيمة سعره المربوط بأوقيَّة الذَّهب؛ لتنتهج الحكومات الكبرى نظام التَّعويم وتتخلَّى تماماً عن أيّ محاولاتٍ لإعادة ربط العُملة بالذَّهب أو بالدُّولار، وأصبح العرض والطَّلبُ وقوَّةُ الاقتصاد هو المتحكّم في سعر عملات مختلف الدُّول الكبرى على الأقلّ، مع تحفُّظ الكثير من الدُّول النَّامية عن اتّباع هذا النَّهج، إمَّا لوقوعها تحت الاحتلال وقتها وربط عملتها فعليّاً بالدُّولة المحتلَّة، أو نتيجة هشاشة اقتصادات هذه الدُّول وعدم قدرتها على تحمُّل تبعات تذبذب العُملة وإخضاعها للعرض والطَّلب. [2]
المستفيدون من تعويم العملة
يضرُّ التَّعويم غير القائم على اقتصادٍ قويٍّ بالكثير من فئات المجتمع، ويرفع نسبة التَّضخُّم سريعاً، ويزيد من البطالة على الأمد القصير، إلَّا أنَّ هناك من يستفيد بشدَّةٍ من هذا الإجراء وهم: [3]
- ملّاك الأصول والعقارات والذَّهب، حيث تتضاعفُ ثرواتهم، وأيضاً من لديهم مخزونٌ من عملاتٍ أجنبيَّةٍ.
- المدينون إذ تنخفضُ قيمة ديونهم بالعملة المحلّيَّة، ويُمكنهم من خلال بيع بعض الأصول تسديد مديوناتهم.
- الحكومة نفسها عبر خفض قيمة الدَّين المحلّيّ.
- المنتجون الذين يعتمدون على خاماتٍ محلِّيَّةٍ ويصدّرون للخارج.
شاهد أيضاً: في يوم الجمعة الأسود: هيمنة طرق BNPL على المعاملات النقدية
كيف يتم تعويم العملة؟
تعتمد الدَّولة تعويم العملة من خلال تركها تماماً أو بشكلٍ كبيرٍ للعرض والطَّلب، فإذا كان الطَّلب على العملة منخفضاً، فبالتَّالي ستنخفض قيمتها، وهذا يجعل السّلع المستوردة ذات تكلفةٍ أكبر، ولكن هذا من ناحيةٍ أخرى يُحفّز الطَّلب على السّلع والخدمات المحلّيَّة، وبالتَّالي يزيد من فرص العمل، ومن ثُمَّ التَّصحيح التّلقائيُّ في السُّوق. [1]
وفي الواقع يُؤكّد الاقتصاديُّون أنَّه لا توجد عملةٌ ثابتةٌ بالكامل أو عائمةٌ بالكامل، فحتَّى في النّظام الثَّابت الذي يتدخَّل فيه البنك المركزيُّ لتحديد سعرٍ ثابتٍ للعملة، فإنَّ ظروف السُّوق يُمكن أن تؤدّي إلى تغيُّراتٍ في سعر الصَّرف.
ففي كثيرٍ من الأحيان قد يضطرُّ البنك المركزيُّ إلى إعادة تقييم السّعر الرَّسميّ بتخفيض قيمته بحيث يتماشى مع السّعر غير الرَّسميّ؛ لتجنب السُّوق السَّوداء، وأيضاً في نظام التَّعويم فإنَّ البنك المركزيَّ قد يتدخَّل جزئيّاً لضمان الاستقرار وتجنُّب التَّضخُّم، ولكنَّ هذا التَّدخُّل يكون أقلَّ بكثيرٍ وربَّما غير مرئيٍّ مقارنةً بنظام الصَّرف الثَّابت.
مراحل تعويم العملة
تتَّبع الكثير من البلدان مراحل تعويم تدريجيَّةٍ ليكون التعويم أكثر سلاسةً وأقلَّ في الأضرار عبر اعتماد أنواعٍ وسيطةٍ من التعويم، والتي تتمثَّل في:
- الرَّبط الثَّابت بعملةٍ واحدةٍ، وفي هذه المرحلة تُربط العملة المحلّيَّة بأخرى قويَّةٍ، وغالباً ما تكون الدُّولار لاستقراره النّسبيّ.
- الرَّبط الثَّابت أو الزَّاحف بسلّةٍ من العملات، وهو ما قامت به الصّين في عام 2005 بربط اليوان بعدَّة عملات بدلاً من الدُّولار، وهذا الإجراء يخفّف من التَّقلُّبات العنيفة للسُّوق، خصوصاً عند اختيار عملاتٍ من شركاء تجاريّين.
- تحرير سعر الصَّرف ضمن نطاقاتٍ أفقيَّة، ويُحافظ البنك المركزيّ على قيمة العملة ضمن نطاقات معيَّنة لا تزيد أو تقلُّ عن 1 أو 2% على أقصى تقديرٍ، وهو النّظام الذي اتَّبعه صندوق النَّقد الأوروبيّ عام 1999، واتَّبعته المغرب أيضاً.
- التَّعويم المدار، وفيه تحاول السُّلطة المركزيَّة التَّأثير في سعر الصَّرف دون وجود هدفٍ معيَّنٍ أو هامش ارتفاعٍ أو انخفاضٍ معيَّنٍ، ولكن يرتبط الأمر بميزان المدفوعات ومستوى الاحتياطات النَّقديَّة، وهو الأسلوب الذي اتَّبعته مصر عادةً لعدَّة سنواتٍ من تعويمٍ مُدارٍ بحيث كان التَّدخُّل مباشراً أو غير مباشرٍ.
- التَّحرير الكامل لسعر الصَّرف، فبعد أن يصلَ الاحتياطيُّ من النَّقد الأجنبيِّ إلى مستوىً معيَّنٍ تبدأ الدَّولة في التَّحرير الكامل لسعر الصَّرف وفقاً لمعدَّلات العرض والطَّلب دون تدخُّلٍ من السُّلطة أو بأدنى قدرٍ على الإطلاق من التَّدخُّل.
متى تستفيد الدولة من تعويم عملتها؟
تستفيدُ الدَّولة من التعويم عندما يتواكبُ مع مجموعةٍ من أشكال الإصلاح الاقتصاديّ واتّباع قدرٍ أكبر من الشَّفافيَّة لتعزيز مؤسَّساتها الماليَّة، ممَّا يُقلِّل من الذُّعر في السُّوق ويجنِّب الدَّولة الدُّخول في أزمةٍ لا يمكن السَّيطرة عليها، فأسعار الصَّرف المعوّمة تعمل بكفاءةٍ أكبر في البلدان التي لديها بالفعل سياسة نقديَّة مستقرّة وفعّالة، بحيث لا يحدث تذبذبٌ كبيرٌ في العملة، ممَّا يُهدّد الاستثمارات الأجنبيَّة والتي لا تعرف في حالة التعويم المُتذبذب ما هي قيمة استثماراتها الحقيقيَّة.
أهم تجارب الدول في تعويم العملات
بين عامي 1985-1992 ارتفعَ عدد الدُّول النَّامية التي لجأت إلى تعويم عملتها، ولم يعد هذا النَّظام مقتصراً فقط على الأنظمة الاقتصاديَّة الكبرى، وكان هذا استجابةً لضغطِ عجزِ ميزان المدفوعات بالإضافة لنقاشات صندوق النَّقد الدَّوليّ، والذي كان يضع التعويم دائماً كشرطٍ أساسيٍّ للمساهمة في برامج الإصلاح الاقتصاديّ المتنوّعة، وهناك الكثير من الدُّول النَّامية التي اضطرَّت إلى تعويم عملتها، مثل: الصَّين والهند وماليزيا ونيجيريا وفنزويلا والبرازيل وغينيا، بالإضافة للدّول العربيّة، مثل: السُّودان ومصر والعراق واليمن والمغرب وغيرها، بالإضافة إلى روسيا بعد الحرب الباردة والدُّول التي انفصلت عنها، وسوف نستعرضُ بعضاً من تجارب تلك الدُّول، والتي كان بعضها ناجحاً للغاية، ولكن لم يوفَّق البعض الآخر:
تجربة مصر
منذ ثورة 23 يوليو 1952 وكان تعويم العملة المصريَّة دائماً قراراً سياديّاً وسياسيّاً لا تلجأ إليه الدَّولة إلَّا مع ضغوطٍ شديدة القُوَّة، وعلى الرَّغم من هذا فقد ارتفع سعر الدُّولار أمام الجنيه المصريّ أكثر من 150 مرَّةً منذ عام 1939، إذ قفزَ من 0.2 جنيهٍ إلى 47.5 جنيهٍ تقريباً عام 2024. [4]
وكانت أوَّل قفزةٍ له مع سياسة الانفتاح في عهد الرَّئيس السَّادات، لتتبّع الدّولة التعويم المُدار على مدى أكثر من 30 سنةً في عهد الرَّئيس السَّابق محمد حسني مبارك، ثم تتَّجه من جديدٍ إلى التعويم الكامل بسبب ضغوط صندوق النَّقد الدَّوليّ وانفجار السُّوق الموازية والمضاربات القويَّة على الدُّولار، ولكن عدم وجود إصلاحاتٍ اقتصاديَّةٍ قويَّةٍ رفع نسبة التَّضخُّم إلى 35% مع انسحاقٍ للفئات الفقيرة، وحتَّى الطَّبقة المتوسِّطة وتوتُّرٍ شعبيٍّ متزايدٍ.
وإن كان هذا القرار في المقابل قضى على السُّوق الموازية، وحقَّق استقراراً ملحوظاً في سعر العملة، ممَّا زاد من الثّقة الدَّوليَّة في الاقتصاد المصريّ.
تجربة روسيا
لجأت روسيا إلى تعويم عملتها عام 2014 بعد العقوبات المفروضة على البلاد، بالإضافة للانخفاض في أسعار النِّفط، وبعد نحو عامٍ من التعويم حقَّق الرُّوبل الكثير من التَّعافي مع القدرة على الاحتفاظ بالمدَّخرات في البنك المركزيِّ، ممَّا شكَّل نقطة قوَّةٍ كبيرةٍ وقتها، إلَّا أنَّ الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة أدَّت إلى تدهوراتٍ جديدةٍ في العُملة وفي العقوبات الاقتصاديَّة.
تجربة المغرب
قرَّرت حكومة المغرب عام 2018 الموافقة على شروط صندوق النَّقد الدَّوليِّ بتعويم عملتها إلَّا أنَّ تجربة مصر وأيضاً اليمن وما صاحبها من احتجاجاتٍ شعبيَّةٍ دفعت بالحكومة المغربيَّة لاتِّباع نهج التعويم التَّدريجيِّ بالسَّماح بهامش 2.5% هبوطاً أو صعوداً للعملة المغربيَّة أمام كلٍّ من اليورو والدُّولار، ولأنَّ المغرب يتمتَّع بدرجةٍ عاليةٍ من الاستقرار في الأنشطة الاقتصاديَّة على العكس من اليمن مثلاً نتيجة الحروب المستمرِّة فإنَّ التَّعويم كان آمناً بدرجةٍ كبيرةٍ وأدَّى إلى توفير احتياطاتٍ نقديَّةٍ قويَّةٍ.
تجربة الصين
وهي من أكثر تجارب التعويم النَّاجحة مع الهند، إذ استفادت كلٌّ من الدَّولتين من حجم الصَّادرات شديدِ الارتفاعِ، والذي كان أقلَّ سعراً بكثيرٍ من منتجات دولٍ منافسةٍ، وقد لجأت الصّينُ لهذه الخطوة بعد إجراءات رفع التَّعريفة على الصَّادرات الصِّينيَّة إلى أمريكا في عهد دونالد ترامب، كما سبقها تعويم آخر عام 2015 جاء أيضاً لتعزيز إصلاحاتٍ سوقيَّةٍ، ممَّا رفع من قدرة البضائع الصِّينيَّة على المنافسة عالميّاً.
شاهد أيضاً: صندوق النقد الدولي يحذّر من أثر الذكاء الاصطناعي على الوظائف
وهكذا، فإنّ نظام تعويم العملة هو السَّائد أكثر في مختلف دول العالم، والذي يعتمدُ عليه تقييم معظم العملات في العالم اليوم، وهذا يعني أنَّ قيمة العملة تعتمدُ على العرض والطَّلب عليها، وهذا يتعارضُ مع أساليب أخرى لتقييم العملة مثل الأصول التي تمتلكها خصوصاً الذَّهب، كما يختلفُ أيضاً عن نظام الصَّرف الثَّابت أو المربوط بعملةٍ محدَّدةٍ.
-
الأسئلة الشائعة
- ما تأثير التعويم؟ يؤدّي التعويم إلى رفع الاحتياطيّ النّقديّ الأجنبيّ وتوحيد سعر الصّرف والقضاء على المضاربات، بالإضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبيّة مع تقليل الاعتماد على الاستيراد واللّجوء إلى البدائل المحليّة، وبالتّالي زيادة فرص العمل على المدى البعيد رغم ما يؤدّي إليه من بطالةٍ مؤقتةٍ مع التضخم وارتفاع الأسعار.