التغلّب على الاحتراق الوظيفي: 3 طرق مبتكرة لتحسين بيئة العمل
استراتيجيات لفهم مجموعات العمل، ممّا يسهم في خلق توازن بين الحياة المهنية والشخصية لأفراد الفريق، بهدف التقليل من الإجهاد وزيادة السعادة والإنتاجية
كنت في مهمَّةٍ للتَّغلُّب على الاحتراق الوظيفيّ لسنواتٍ، وهي مهمَّةٌ لم تكن ناجحةً إلى حدٍّ كبيرٍ حتَّى الآن، فلقد عملت بدوامٍ كاملٍ حوالي عقدٍ من الزَّمان، كنت خلال ذلك أسعى لإنشاء مشاريع ناشئةٍ والعمل بجهدٍ مضاعف، إلَّا أنَّني وصلت بعدها إلى طريقٍ مسدودٍ، ولكن عندما استخدمت راتبي لتمويل أعمالي بنفسي، لم يكن الحلَّ الذي كانت كلُّ المؤشِّرات تلوِّح به -والقائل بالتَّخلِّي عن إحدى المهامِّ الملقاة على عاتقي- خياراً كنت مستعدَّاً للنَّظر فيه. [1]
بالنِّسبة لأولئك الَّذين يحملون ثقل الإجهاد المتراكم، قلَّما تكون الحلول بسيطةً كمجرَّد التَّخلِّي عن بعض الأعباء، وإنَّنا في النّهاية مقيَّدون بالواجبات التي نحملها على عاتقنا، وهكذا، وجدت نفسي وأنا أتحوَّل شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه السَّفينة التي توشك على الغرق، أشقُّ طريقي في البحث عن موطن الثَّغرة التي تسمح بالتَّسرُّب، بدلاً من أن أستسلم لقدري.
لقد استنفدت، بحقّ، كلَّ السُّبل التي ظننت أنَّها قد توصلني إلى برِّ الأمان من عبء الإجهاد الذي كان يثقل كاهلي، بدايةً من زيادة تماريني البدنيَّة، وتناول الأطعمة الصِّحيَّة، والإكثار من شرب الماء، وليس انتهاءً بتعريض جسدي إلى أشعة الشَّمس أكثر، والحرص على تحسين نوعيَّة نومي، كما بحثت عن السَّكينة في تعلُّم فنون التَّأمُّل، وغيَّرت مجرى حياتي المهنيَّة من شركة إلى أُخرى ومن منصبٍ إلى آخر، بل إنِّني سعيت خلف التَّقليل من مسؤوليَّاتي الوظيفيَّة في رحلة البحث عن راحة البال.
وقد أخذتُ إجازاتٍ، بل إجازة طويلة في محاولةٍ للفرار ممَّا يُثقلني، ومع أنَّ هذه المحاولات قد ساهمت، بطريقةٍ أو بأُخرى، في تغيير الأمور قليلاً عمَّا كانت عليه، إلا أنَّها، في جوهر الأمر، لم تستطع أن تزيلَ عنَّي ثوب الإجهاد الذي كان يكتنفني.
وفي محاولةٍ يائسةٍ لإيجاد علاجٍ لإجهادي المستمرِّ، سافرت في مهمَّةٍ عبر أصقاع الأرض، وأمضيت أسابيع في عزلةٍ، أخوض في مياه بحر الشَّمال وسط برد الشّتاء القارس، وجلست عند أقدام (شامان) لأتعلَّم من حكمته، وأعدت التَّوحُّد مع الطَّبيعة، وغصَّت في عمق حضاراتٍ بعيدةٍ تتبنَّى ثقافة العمل من أجل العيش، لا العيش من أجل العمل.
لكن عند عودتي، وجدت أنَّ وقتي الذي قضيته بعيداً عن كلِّ شيءٍ قد زاد الطِّين بلَّة، ما جعلني أجد صعوبةً أكبر في التَّصالح مع رتابة الحياة اليوميَّة، فأصبحت -كما يقولون- بحاجةٍ إلى إجازةٍ من إجازتي، وصحيحٌ أنَّ مغامراتي عبر البلدان لم تقدِّم العلاج المنشود للإجهاد الذي كنت أعانيه، إلَّا أنَّها أوصلتني إلى معرفة أصل المشكلة، وكان الحلُّ الذي وجدتُه لا يتمثَّل في القيام بمهامٍ أقلَّ، بل في إنجاز المزيد منها.
شاهد أيضاً: استراتيجيات لزيادة الإنتاجية دون الوصول للإرهاق أو الاحتراق الوظيفي
النظر في أسباب الاحتراق الوظيفي
من بين كلِّ الأشياء التي حاولت القيام بها للتَّغلُّب على ما أعانيه من إجهادٍ، ما لم أفعله قط كان المزيد من الأشياء التي كنت أستمتع بفعلها، واكتشفت فيما بعد أنَّ هذه كانت مشكلتي.
سنواتٌ مضت كنت أفترض خلالها أنَّ الإجهاد نابعٌ من تجاوزي لحدود قدراتي، ومع ذلك، قد يكون شعور القيام بالكثير ليس سوى عرضٍ من أعراض الإجهاد وليس سببه الأصليّ، ففي العديد من الأحيان، لا يأتي الإجهاد من مجرَّد القيام بأعباءٍ كثيرةٍ، بل من عدم القيام بما يكفي من الأمور التي تُشعِرنا بالبهجة والسُّرور، وبعبارةٍ أدقّ، لا ينشأ الإجهاد الذي يُثقل كاهل الكثيرين منَّا من إغراق أنفسنا في مهامٍّ لا تروق لنا فحسب، بل ينبع أساساً من فقداننا للوقت الكافي لنهمس لأرواحنا بما تشتهي الانغماس فيه.
أمَّا لو كان الأمر يقتصر على كوننا نُفرِّط في العمل، لكان الحلُّ يكمن في اتِّخاذ قسطٍ من الرَّاحة والتَّقليل من وتيرة نشاطاتنا -بل ربَّما التَّوقُّف عن العمل برمَّته- كحلٍّ للتَّعافي، ومع ذلك ندرك أنَّ هذا المسعى غير مجدٍ عندما نعود من إجازاتنا لنجد أنفسنا ما زلنا نتوقُ للمزيد من لحظات الهدوء.
ومع الاعتراف بأنَّ الوقت الذي نملكه لا يمكن أن يُخصّص بأكمله لما نرغب حقَّاً في القيام به -خاصَّة عند التزامنا بعملٍ يستغرق أكثر من 40 ساعةٍ أسبوعيَّاً- يمكننا بالتَّأكيد أن نجد سُبلاً لإدراج المزيد من النَّشاطات المبهجة بالنِّسبة لنا ضمن يوميَّاتنا، وهذا يمكن أن يتمَّ داخل أسوار العمل وخارجها، بل بالأحرى يجب أن يكون كذلك.
شاهد أيضاً: دعك من الاحتراق الوظيفي قد يحترق موظفوك من الملل وأنت لا تدري!
إضفاء المرونة على جداول العمل
توفِّر المرونة في جداول العمل المساحة اللَّازمة للموظَّفين لكي يتمكَّنوا من إدماج فصولٍ من الحياة ضمن إيقاع العمل والحياة، والقصد هنا ليس دعوةً لتقليص السَّاعات الوظيفيَّة، بل تمكين الموظَّفين من أداء مهامهم في أوقاتٍ تلائم أنماط حياتهم الشَّخصيَّة، وهذا هو الأساس الذي تستند إليه استراتيجيَّة Apple البديهيَّة لمواجهة الاحتراق الوظيفي، وفي بعض المهن والأدوار، قد يعني ذلك منح الموظَّفين حريَّةً أكبر في تحديد ساعات عملهم، بما يُتيح لهم تصميم جداولهم الخاصَّة بشكلٍ يناسبهم، وفي سيناريوهات أُخرى، قد تتجلَّى المرونة في تقديم يوم عملٍ أكثر مرونةً.
وكمثالٍ، الجداول غير المتزامنة تُتيح للموظَّفين حريَّة اختيار ساعات العمل المفضَّلة لديهم، فالموظَّفون الَّذين يجدون صعوبةً في الاستيقاظ مبكِّراً، أو الَّذين يودُّون المشاركة في تمارين الصَّباح الباكر، أو الَّذين يحتاجون لتهيئة أطفالهم للذَّهاب إلى المدرسة، ويمكنهم التَّوفيق بين هذه الاحتيَّاجات، وعملهم بالعمل من العاشرة صباحاً حتَّى السَّادسة مساءً، وبالمثل يمكن للفرد المحبِّ للصَّباح الباكر أن يختارَ العمل من السَّابعة صباحاً حتَّى الثالثة بعد الظُّهر، ويغادر عندما يبدأ تركيزه وإنتاجيَّته في التَّناقص الملحوظ مع حلول فترة ما بعد الظَّهيرة.
باختصارٍ، يمكن لصياغة جداول عملٍ تتناسب مع حياة الموظَّفين أن يؤدِّي إلى تحسُّنٍ ملحوظٍ في أداء العمل، وزيادةٍ في الإنتاجيَّة، وتقليلٍ في معدَّل دوران الموظَّفين، غير أنَّ الحلَّ لا يقتصر على التَّلاعب بجداول العمل وحسب، بل يمتدُّ ليشمل العمل نفسه.
شاهد أيضاً: كلمة واحدة تشرح ببراعة السبب الخفي للاحتراق الوظيفي
تحقيق التوافق بين الموظفين والمهام التي يجدون بها متعتهم
ينبغي ألّا يقتصر البحث عن لحظات السَّعادة والبهجة على الأوقات المستقطعة من العمل فحسب، ففي ظلِّ ساعات عملٍ تتجاوز الأربعين أسبوعيَّاً، يصبح من الجوهريِّ ابتكار أساليب تجعل الدَّور الوظيفيِّ -بكلِّ مهامه وواجباته ومسؤوليَّاته- مصدراً للمتعة والرِّضا، إذ يعاني الكثيرون من الاحتراق ليس فقط بسبب ندرة ما يسعدهم خارج نطاق العمل، بل أيضاً جرَّاء قلَّة ما يلقونه من متعةٍ في مهامِّهم الوظيفيَّة ذاتها، وقد كان هذا عنصراً محوريَّاً في استراتيجيَّة "الاستقالة العُظمى" التي أثبتت فاعليَّتها بشكلٍ لافتٍ.
لكلِّ شخصٍ أجزاءٌ من عمله يجدها ممتعةً (أو على الأقلّ آمل هذا)، والتَّعرُّف على هذه الأجزاء لتمكين الموظَّفين من القيام بها أكثر يُعدّ وسيلةً فعَّالةً لمساعدتهم على تجاوز الإجهاد، وقد يعشق مندوب مبيعاتٍ التَّحدِّي الذي يكمن في الاتصالات الباردة بعملاء محتملين جدُّد، في حين يجد آخر رضاه في تعزيز العلاقات مع العملاء، وربَّما يفضِّل موظَّفٌ في قسم الموارد البشريَّة إجراء المقابلات والتَّوظيف على الأعمال الإداريَّة والحفاظ على الانضباط.
من خلال التَّعمُّق في فهم فريقك وما يهمُّهم ويفضلونه على المستوى الشَّخصيّ، يمكنك تحسين التَّنسيق وتوزيع المهام -وحتَّى ساعات العمل- بما يناسبهم أكثر، كلَّما كان ذلك ممكناً، وعندما يبادر أصحاب العمل والمديرون إلى فهم فرقهم لا كمجموعاتٍ فحسب بل كأفرادٍ، يستطيعون بدء صياغة بيئة عملٍ توازِن بين الحياة العمليَّة والشَّخصيَّة، وبالتَّالي تخفِّف من الإجهاد، وتعزِّز السَّعادة وحتَّى الإنتاجيَّة.
لمزيدٍ من النصائح في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.