حكمة الحشود: استغلال الذكاء الجماعي في تحديد اتجاهات السوق
كيف تسهم حكمة الجماهير في دفع عجلة الابتكار، وتحديد اتجاهات السوق، وتطوير القرارات الاستراتيجية؟
تخيَّل لحظة الإثارة في البرنامج التَّلفزيوني الشَّهير "من سيربح المليون"، حيث يقف المتسابق متحيِّراً أمام سؤالٍ عن سيارات سباق الفورمولا 1، ويتردَّد لبرهةٍ ثمَّ يقرِّر الاستعانة برأي الجمهور، والأصوات تتعالى، والأضواء تتلألأ، والنَّتيجة؟ رأي الجمهور يصيب كبد الحقيقة، على الرَّغم من تنوِّع خلفيَّاتهم ومستويَّات خبرتهم، وهذا المشهد يعكس ببساطةٍ قوَّة الذكاء الجماعي الذي يتفوَّق أحيانًا حتَّى على الخبراء المتخصِّصين.
حكمة الجماهير هي شهادةٌ على قوَّة البصيرة الجماعيَّة، إنَّها قوَّةٌ تدفع للابتكار، وتملي تفضيلات المستهلكين، وفي النّهاية، تُحدِّد مسار الأسواق، وفي هذا المقال، نستكشف التَّفاعل المثير بين علم النَّفس البشريّ وتدفّق المعلومات وديناميات السُّوق، ونستكشف كيف تؤثّر رؤى الجماهير المجتمعة على أسعار الأسهم، وتؤثِّر في استراتيجيَّات الاستثمار، وحتَّى تؤثّر في الاقتصادات بأكملها. استعد لفكّ رموز حكمة الجماهير وتداعيَّاتها على المستثمرين في جميع أنحاء العالم، وكيف يمكن للشَّركات والمستثمرين استغلال هذه الحكمة لتحديد اتّجاهات السُّوق وصناعة قراراتٍ أكثر صواباً؟
السياق التاريخي لحكمة الحشود
يعتمد مفهوم "حكمة الحشود"على فكرة أنَّ القرار الجماعيّ قد يكون أدقَّ من قرارات الأفراد المنفردين، وهذا المفهوم له جذورٌ تعود إلى حادثةٍ مثيرةٍ حدثت منذ أكثر من مئة عامٍ، في عام 1906، شهد السير فرانسيس جالتون Francis Galton، العالم المهتمُّ بالإحصاء والقياس، مسابقةً في مهرجانٍ ريفيٍّ حيث كان على المشاركين تقدير وزن ثور.
توقَّع جالتون أن تكون الإجابات متباينةً وغير دقيقةٍ، لكنَّه تفاجأ عندما وجد أنَّ التَّقدير الوسطيَّ للجمهور كان قريباً بشكلٍ لافتٍ من الوزن الحقيقيّ للثَّور، وهذه الدقَّة الجماعيَّة، على الرَّغم من عدم تحقيق أيّ فردٍ للرَّقم الصَّحيح بالضَّبط، جعلت جالتون يدرك القيمة الكامنة في الأحكام المجمَّعة، ومن هنا، وُضعت الأسس لما نعرفه اليوم بـ "حكمة الجماهير”: الاعتقاد بأنَّ تقديرات مجموعةٍ متنوِّعةٍ من النَّاس يمكن أن تؤدِّي إلى نتائج دقيقةً بشكلٍ مذهلٍ، حتَّى في غياب الخبرة، وانتشرت هذه الفكرة في مختلف المجالات، من توقُّعات سوق الأسهم إلى أنظمة التَّصويت الدّيمقراطية، وتستمرُّ في التَّأثير على كيفيَّة تفسيرنا لقوَّة الفكر الجماعيّ في عمليَّات اتِّخاذ القرار، وبالتَّالي، يعدُّ السّياق التَّاريخيّ لحكمة الجماهير شهادةٌ على القيمة المستمرَّة للبصيرة الجماعيَّة في المجتمع الإنسانيّ. [1]
شاهد أيضاً: سؤالٌ واحدٌ سينقذك: كيف تتغلب على التردد وتتخذ قراراتك بحكمة؟
ما هي خصائص الحشد الحكيم؟
تساعد مجموعة الخصائص هذه في ضمان أن يكونَ حكم الجماعة الجماعي أكثر دقَّةً ومتانةً من حكم أيّ عضوٍ فرديٍّ: [2]
- تنوُّع الآراء: يجب أن يكونَ لكلِّ شخصٍ معلوماتٌ خاصّةٌ به حتَّى لو كانت مجرَّد تفسيرٍ غريبٍ للحقائق المعروفة.
- الاستقلاليَّة: لا يتمُّ تحديد آراء الأشخاص بناءً على آراء من حولهم.
- اللامركزيَّة: يجب أن يكونَ الحكم نابعاً من الدَّاخل وغير موجَّهٍ من قبل منظومةٍ أو شخصٍ آخر.
- التَّجميع: يجب أن يكونَ هناك آليةٌ لتحويل الأحكام الخاصَّة إلى قرارٍ جماعيٍّ.
حكمة الحشود في الأسواق المالية
تُسهم حكمة الحشود في تطوير الأسواق الماليَّة من خلال تعزيز عمليَّة اتّخاذ القرار، وحلّ المشكلات، والابتكار، وينشأ هذا الذكاء الجماعي عندما تجتمع مجموعاتٌ متنوِّعةٌ من الأشخاص للتَّنبُّؤ بالأحداث أو حلِّ المشكلات، وغالباً ما تتفوَّق على الخبراء الأفراد في الأسواق الماليَّة، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى تشغيل الأسواق بكفاءةٍ أكبر وتوقُّعٍ أفضل للاتِّجاهات والأحداث.
على سبيل المثال، تستخدم الأسواق التَّنبُّؤيَّة حكمة الحشود للتَّنبُّؤ بنتائج الأحداث المختلفة، بما في ذلك المؤشِّرات الاقتصاديَّة أو حركات سوق الأسهم، ويمكن لتجميع الآراء المتنوِّعة أن يُلغي التَّحيُّزات الفرديَّة، ممَّا يؤدِّي إلى صورةٍ أوضح لسلوك السُّوق المستقبليّ.
علاوةً على ذلك، تُظهر حكمة الحشود في منصَّات التَّمويل الجماعيّ وعروض العملات الأوليَّة (ICOs)، حيث يسهم عددٌ كبيرٌ من المشاركين في تمويل وتقييم المشاريع الجديدة، وأظهرت الدّراسات أنَّ التَّقييمات الجماعيَّة من المحلِّلين المتنوِّعين يمكن أن تتنبَّأ بنجاح جمع التَّمويل والأداء طويل الأمد، وكذلك المساعدة في كشف الاحتيال المحتمل.
بشكلٍ عامٍّ، من خلال الاستفادة من المعرفة الجماعيَّة ووجهات النَّظر المتنوِّعة للعديد من الأفراد، يمكن للأسواق الماليَّة أن تصبح أكثر ديمقراطيَّةً وشموليَّةً وابتكاراً، ممَّا يخلق بيئةً مواتيةً للنُّموِّ والتَّطوُّر. [3]
شاهد أيضاً: أهمية بنوك الطعام في تعزيز التنمية المستدامة
كيف طوّعت الشركات والبنوك قوة حكمة الجماهير لصالحها؟
استفادت الشَّركات بشكلٍ ملحوظٍ من حكمة الجماهير، حيث استخدمت الأفكار الجماعيَّة لابتكار منتجاتها وتحسينها، كما سنوضِّحه لكم في الأمثلة التَّالية: [5]
- بنكا اسكتلندا الملكي RBS وباركليز Barclays: نفَّذ هذان البنكان الكبيران منصَّات إلكترونيّة تشجِّع العملاء على المشاركة بأفكارهم لتطوير الخدمات، وهذه الطَّريقة لا تعزِّز الإحساس بالانتماء والوفاء لدى العملاء فحسب، بل تمكِّن البنوك أيضاً من الحصول على مجموعةٍ واسعةٍ من الآراء المتنوِّعة، مما يساعدها على تحسين خدماتها بما يتوافق مع احتياجات ورغبات العملاء.
- البنك القياسي (Standard Bank): سعى البنك لحلِّ مشكلة توفير المياه النَّظيفة في أفريقيا، إذ لجأ إلى استطلاع آراء الجمهور، وبفضل هذه الاستراتيجيَّة، تمكَّن من جمع العديد من الحلول المبتكرة التي يمكن تطبيقها لتحسينِ الوصول إلى المياه، وضمانِ استدامتها في مختلفِ أنحاء القارَّة.
- دوريتوس Doritos: من خلال حملة الإعلان "Crash the Super Bowl"، دعت دوريتوس المستهلكين لإنشاء إعلاناتهم التّجاريَّة الخاصة، حيث تمَّ عرض الإعلانات الفائزة خلال السُّوبر بول، ولم يؤدِ ذلك إلى توليد كمٍّ هائلٍ من المحتوى الإبداعيّ فحسب، بل أدَّى أيضاً إلى زيادةٍ كبيرةٍ في التَّفاعل مع العلامة التّجاريَّة والمبيعات.
- ووكرز/ليز Walkers/Lays: شجَّعت حملة "اختر لنا نكهة" التي أطلقتها ووكرز (المعروفة باسم ليز في بلدان أخرى) العملاء على اقتراح نكهاتٍ جديدةٍ للشيبس، وأسفرت هذه الحملة عن أكثر من مليون اقتراحٍ للنَّكهات و4.3 مليون زيارة للموقع، وزيادةٍ كبيرةٍ في المبيعات، ممَّا يُظهر قوَّة مشاركةِ العملاء في ترويج المنتج.
وفي نهاية مقالنا لا بدَّ من التَّنويه على تجنُّب التَّحيُّزات المعرفيَّة مثل الثّقة المفرطة والتي قد تحرف النَّتائج، وندعو الشَّركات إلى تصميم مبادراتها لجمع الآراء بعنايةٍ للتَّقليل من هذه المشكلات، وأن تستخدم أدوات تحليلٍ قويَّةٍ؛ لتحقيق الاستفادة الحقيقيَّة من الذكاء الجماعي.
لمزيدٍ من النصائح في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.