دروسٌ من الفشل: الفصل الأول في رحلة النّجاح
مصطفى طلعت وكريم الشّافعي يستخلصان دروساً استثنائيّة من تجربة "سيركي"، ويؤكّدان أن الفشل قد يكون أعظم معلم في مسيرة ريادة الأعمال
هذا المقال متوفر أيضاً باللغة الإنجليزية هنا
في عام 2012، اجتمع مصطفى طلعت وكريم الشّافعيّ في مشروعٍ مشتركٍ، حلما به كثيراً، وأطلقا عليه اسم "سيركي" (Cirqy)، ليقدّما من خلاله منصّةً رقميّةً مقرّها القاهرة، تتيح للمصمّمين المستقلّين والمبدعين وأصحاب العلامات التّجاريّة الصّغيرة أن يعرضوا إبداعاتهم. وقد جاء هذا المشروع وليد الحاجة المتزايدة إلى منتجاتٍ محلّيّةٍ أصيلةٍ ذات جودةٍ عاليةٍ، تجسّد الحرفيّة والابتكار، فضلاً عن تزايد عدد المصمّمين المحلّيّين الّذين كانوا يعانون من نقصٍ في قنوات البيع. وهكذا، بدا "سيركي" وكأنّه البديل المصريّ لمنصّة "إتسي" (Etsy) العالميّة الشّهيرة، مع آمالٍ كبيرةٍ للتّوسّع في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويستذكر مصطفى وكريمٌ بداياتهما قائلين: "كان عرضنا للمصمّمين بسيطاً جدّاً: سنقدّم لهم منصّةً تضمن ألّا تضيع أعمالهم وسط الزّحام، وسنتكفّل نحن بالجوانب التّقنيّة، حتّى يتمكّنوا من التّفرّغ للإبداع. كما استفدنا من تنامي حركة ’دعم المنتج المحلّيّ‘ الّتي كانت تكتسب زخماً في ذلك الوقت. لقد تولّينا كلّ شيءٍ: إنشاء المحتوى، إدارة العلاقات مع البائعين، التّسويق، ومواكبة التّطوّرات التّقنيّة. لم يكن ’سيركي‘ مجرّد منصّةٍ لبيع المنتجات؛ بل كان حلماً ببناء مجتمعٍ يحتضن المواهب المحلّيّة وروح الإبداع".
وما بين عامي 2012 و2014، قرّر الشّريكان ترك وظائفهما التّقليديّة المريحة والتّفرّغ كلّيّاً لمشروعهما النّاشئ، دون خارطة طريقٍ واضحةٍ أو دليلٍ يرشدهما في هذا المضمار. لكنّ التّحدّيات كانت جسيمةً، فبيئة ريادة الأعمال في مصر آنذاك كانت لا تزال في بداياتها، ولم تكن البنية التّحتيّة للتّجارة الإلكترونيّة مهيّأةً لاستيعاب أحلامهما، بينما كانت بوّابات الدّفع وشبكات التّوصيل تعاني من قصورٍ كبيرٍ.
ويقول الشّريكان: "كانت ريادة الأعمال في مصر عام 2012 مليئةً بالطّاقة والحماس، لكنّها كانت تفتقر إلى النّضج. لم تكن هناك مسرّعات أعمالٍ أو خرائط طريقٍ، ولم تكن شبكات الدّعم كما هي اليوم. لقد كان الأمر أشبه بمغامرةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، حيث لم تكن التّجارب السّابقة كافيةً لتوفير حلولٍ واضحةٍ. ورغم ذلك، كانت تلك الفترة مليئةً بالدّروس، بعضها مريرٌ، وبعضها الآخر كان يحمل بين طيّاته لحظاتٍ من النّجاح العابر".
وفي عام 2014، توصّل مصطفى وكريمٌ إلى قرارٍ كان لا بدّ منه: إغلاق مشروعهما. جاء القرار بعد أن بات واضحاً لهما أنّ النّموّ كان بطيئاً، والتّحدّيات اللّوجستيّة أكبر ممّا يستطيعان تحمّله، والأسواق لم تكن جاهزةً لتبنّي مشروعهما كما تخيّلا.
ويضيفان وهما يسترجعان تلك اللّحظات: "إطلاق مشروعٍ في مصر ما بعد الثّورة كان خطوةً جريئةً، وربّما متهوّرةً بعض الشّيء. يمنحك الشّباب جرأةً لا ترافقها دائماً حساباتٌ دقيقةٌ للمخاطر. بدأنا بوضع الفكرة، وصياغة نموذجٍ ماليٍّ كان، في الحقيقة، أكثر تفاؤلاً ممّا يجب، ثمّ إعداد عرضٍ تقديميٍّ وخطّة عملٍ. كانت الأيّام الأولى مزيجاً من الحماس، اللّيالي الطّويلة الّتي لا يغمض لنا فيها جفنٌ، والكثير من التّساؤلات الّتي لم نجد لها إجاباتٍ واضحةٍ. كان علينا أن نتعلّم كلّ شيءٍ من الصفر: كيفيّة استقطاب البائعين، إدارة المدفوعات، التّعامل مع لوجستيّاتٍ معقّدةٍ، والتّسويق للمنصّة. لم تكن البنية التّحتيّة للتّجارة الإلكترونيّة في مصر تسير على نحوٍ يواكب طموحاتنا، ما اضطرّنا إلى مواجهة تحدّياتٍ كالتّوصيل غير الموثوق، إقناع المستهلكين بالتّسوّق عبر الإنترنت، والعمل مع بوّابات دفعٍ بالكاد تؤدّي وظيفتها. كانت رحلةً مليئةً بالتّحدّيات، لكنّها كانت أيضاً مليئةً بالدّروس".
وعن قرار إغلاق المشروع، يقول مصطفى وكريمٌ: "لم تكن هناك لحظةٌ دراميّةٌ حاسمةٌ جعلتنا نتّخذ القرار؛ بل كان إدراكاً تدريجيّاً بأنّ الوقت قد حان لإنهاء هذه المرحلة. أدركنا أنّ توسيع المشروع كان أصعب ممّا توقّعنا، وأنّ السّوق لم يكن ينمو بالسّرعة الّتي كنّا نأملها. التّحدّيات اللّوجستيّة، مثل خدمات التّوصيل غير الموثوقة، وهوامش الرّبح الضّئيلة، ونقص الحلول الفعّالة للدّفع، كانت تعيقنا بشكلٍ كبيرٍ. كما أنّ فجوة التّمويل بين الاستثمار التّأسيسيّ ورأس المال الاستثماريّ كانت عقبةً أخرى. في النّهاية، أدركنا أنّ الشّغف وحده لا يكفي؛ فالسّوق أيضاً يجب أن يكون مستعدّاً. كان القرار صعباً، لكنّه كان ضروريّاً، إذ إن معرفة متى يجب عليك التخلّي عن مشروعك لا تقلّ أهمّيّةً عن السّعي لتحقيق النّجاح".
واليوم، بعد عشرة أعوامٍ من اتّخاذهما لذلك القرار المصيريّ، يرى مصطفى طلعت، الّذي يشغل الآن منصب مدير التّسويق والتّواصل لقطاع المستهلكين في شركة كوكاكولا لمنطقة أوراسيا والشّرق الأوسط، وكريم الشّافعيّ، الّذي يشغل حاليّاً منصب مدير المنتج والنّموّ في شركة التّكنولوجيا الماليّة "ماني فيلوز" (Money Fellows) ومقرّها القاهرة، أنّ الفشل في مشروع "سيركي" كان أعمق درسٍ تعلّماه خلال مسيرتهما المهنيّة.
يقول طلعت وهو يسترجع تلك التّجربة: "حين أنظر إلى الماضي، أرى بوضوحٍ أنّ هناك أموراً كنت سأفعلها بشكلٍ مختلفٍ لو عاد بي الزّمن إلى الوراء. ربّما لم أكن مستعدّاً بما يكفي لبناء شركةٍ ناشئةٍ من الصّفر. لكن، في الحقيقة، لا أظنّ أنّ أحداً سيكون مستعدّاً بالكامل لتلك التّجربة. إنّها من الأمور الّتي لا يمكنك أن تدرك أبعادها الحقيقيّة إلّا حين تخوضها بكلّ جوارحك. كلّ تحدٍّ واجهته علّمني شيئاً جديداً، ورغم أنّنا كنّا من أوائل من دخلوا سوقاً لم تكن قد نضجت بعد، فإنّني أحمل تلك الدّروس معي في كلّ خطوةٍ خطوتها منذ ذلك الحين. كانت ’سيركي‘ بالنّسبة لي أشبه بالحصول على درجة الماجستير في ’ما لا ينبغي عليك فعله‘ وأعترف، أنّ الحديث عن هذا الفشل يجعل مقابلات العمل دائماً أكثر تشويقاً. أبدأ أحياناً قائلاً: ’لقد أسّست شركةً ناشئةً وفشلت‘. وهنا، ترى الانبهار في أعين النّاس، إذ يستخفّ الكثيرون بقوّة الفشل وأثره. لكنّه في الواقع يكسر الحواجز سريعاً – ترى النّاس يهدأون حين يدركون أنّك لا تحاول أن تبدو مثاليّاً".
يتابع طلعت: "واحدةٌ من أعظم الدّروس الّتي خرجت بها من تلك التّجربة كانت القدرة على التّكيّف بسرعةٍ. تتحرّك الشّركات النّاشئة بسرعةٍ مذهلةٍ، وكثيراً ما تتطلّب منك تغيير المسار وأنت في منتصف الرّحلة. لا يمكنك أن تظلّ جالساً تنتظر شيئاً لا يعمل أن يبدأ بالعمل فجأةً. عليك أن تكون على استعدادٍ للتّبديل والتّحوّل فوراً. هذه المرونة كانت ضروريّةً في وظيفتي الحاليّة، حيث الوتيرة لا تقلّ سرعةً وضغطاً".
ثمّ يضيف طلعت: "هناك أيضاً جانب بناء العلاقات. في سيركي، أنشأنا مجتمعاً يضمّ المبدعين والعملاء، وكان تركيزنا على المنتجات المحلّيّة الفريدة. وقد علّمتني تلك التّجربة أنّ النّاس لا يشترون المنتجات فقط، بل يشترون القصص الّتي ترافقها. هذا النّهج أثبت فاعليّته في مجال التّسويق أيضاً – سواءً كنت أصمّم حملةً إعلانيّةً، أو أعمل مع فرق العمل، فإنّ الأمر دائماً يتعلّق ببناء روابط حقيقيّةٍ وأصيلةٍ. وبالطّبع، لا يمكنني أن أغفل عن الدّرس الكبير: احتضان الفشل. لقد تبيّن لي أنّ الفشل الذّريع في سيركي كان من أفضل الأمور الّتي يمكن أن تحدث لي. تعلّمت من الأخطاء أكثر ممّا تعلّمت من النّجاحات السّلسة. والآن، حين تسوء الأمور – وهو أمرٌ لا مفرّ منه – لا أفقد هدوئي. أدرك أنّ كلّ إخفاقٍ يحمل معه درساً، وأحياناً يكون هذا الدّرس أكثر قيمةً من النّجاح في المحاولة الأولى".
يختتم طلعت حديثه قائلاً: "صحيحٌ أنّ سيركي لم تصل إلى قمّة النّجاح الّذي تخيّلناه، لكنّها منحتني صلابةً ورؤيةً أستخدمها كلّ يومٍ. الفشل لم يكن نهاية القصّة، بل كان مجرّد فصلٍ يهيّئنا للكتابة عن المستقبل بشكلٍ أفضل".
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في عدد نوفمبر من مجلة "عربية .Inc". لقراءة العدد كاملاً عبر الإنترنت، يُرجى النقر هنا.