ديون بطاقات الائتمان تتزايد وتقلل من الإنفاق الاستهلاكي
ارتفاع ديون بطاقات الائتمان في الولايات المتحدة إلى 1.14 تريليون دولار وتزايد حالات التأخر في السداد يضغطان على المستهلكين، مما يهدد بتباطؤ في الإنفاق ويؤثر على استقرار الاقتصاد
في ظلِّ التّحدياتِ الاقتصاديةِ الحالية، قد يلاحظُ أصحابُ الأعمالِ التجاريةِ أنّ المستهلكين أصبحوا أكثر تردداً في اتخاذِ قراراتِ الشراء. لكنّ ما وراء هذا التّرددِ ليس فقط تأثير التّضخمِ المستمرِّ منذُ عامينِ وارتفاعِ الأسعارِ بشكلٍ متزايد، بل هناك عاملٌ آخرُ أكثرُ تأثيراً وهو الارتفاعُ الكبيرُ في ديونِ بطاقاتِ الائتمان. هذا العبءُ الماليُّ المتزايدُ على المستهلكين ليس مجرد رقمٍ على الورق، بل هو واقعٌ يوميٌّ يواجهُه الكثيرون، ممّا يزيدُ من معدلاتِ التّأخرِ في السّدادِ إلى مستوياتٍ لم تُشاهد منذُ عام 2012، وهو ما لا يُبشّرُ بأيِّ انتعاشٍ قريبٍ في الإنفاقِ الاستهلاكي.
وفقاً لتقريرٍ ربعيٍّ صدر حديثاً عن بنكِ الاحتياطيِّ الفيدراليِّ في نيويورك، بلغت ديونُ بطاقاتِ الائتمانِ لدى المستهلكين الأمريكيّين مستوىً غير مسبوقٍ، حيثُ وصلت إلى 1.14 تريليون دولارٍ خلال الربعِ الثّاني من عام 2024. هذهِ الأرقامُ ليست مجرد إحصائياتٍ عابرةٍ، بل هي إشارةٌ واضحةٌ إلى ضغوطٍ ماليةٍ متزايدةٍ على العائلاتِ الأمريكيّة. بالمقارنةِ مع الربعِ السّابقِ، ارتفعت ديونُ بطاقاتِ الائتمانِ بمقدارِ 27 مليار دولارٍ، وهو ما يمثلُ زيادةً قدرُها 111 مليار دولارٍ مقارنةً بنفسِ الفترةِ من العام الماضي. وبحسبِ وكالةِ تقاريرِ الائتمانِ "ترانس يونيون" (TransUnion)، يبلغُ متوسطُ الديونِ المتراكمةِ لكلِّ حاملِ بطاقةٍ 6,329 دولاراً، وهو ما يعكسُ زيادةً سنويةً بنسبةِ 4.8%.
لكنّ التّحدي الأكبر لا يكمنُ فقط في ارتفاعِ الديونِ، بل في قدرةِ المستهلكين على سدادِها. إذ أشار تقريرُ الاحتياطيِّ الفيدراليِّ إلى أنّ أكثر من 9% من حاملي بطاقاتِ الائتمانِ الذين زادت ديونُهم خلال العام الماضي تحوّلوا إلى حالاتِ تأخرٍ في السّدادِ. والأسوأُ من ذلك هو أنّ الحالاتِ الجديّة، أي الحساباتِ التي تأخّرت في السّدادِ لمدةِ 90 يوماً أو أكثر، ارتفعت من 5.08% في الربعِ الثاني من عام 2023 إلى 7.18% في نفسِ الفترةِ من هذا العام.
هذا التّطوّرُ لا يمكنُ أن يمرّ دون أن يُثير قلق أصحابِ الأعمالِ التّجارية، الذين يرون بالفعلِ تأثيراتِ التّضخّمِ على قراراتِ المستهلكين الشرائية. ففي حين أنّ ديون بطاقاتِ الائتمانِ كانت دائماً جزءاً من المشهدِ الماليِّ، إلا أنّ ارتفاعها إلى هذا المستوى، مقترناً بارتفاعِ أسعارِ الفائدةِ إلى متوسطٍ يتجاوزُ 27.6%، يضعُ ضغوطاً هائلةً على المستهلكين. هذا الوضعُ يجعلُهم يفكرون ملياً قبل الإقدامِ على أيِّ عمليةِ شراءٍ، وهو ما يؤدّي في النهايةِ إلى تباطؤٍ في المبيعاتِ وتأثيرٍ سلبيٍّ على الاقتصادِ ككلٍّ.
مع تزايدِ معدلاتِ التّأخرِ في السدادِ، تزدادُ مخاطرُ غرقِ المستهلكين في دوامةٍ من الدّيونِ المتراكمةِ، حيثُ تتراكمُ الفوائدُ والرّسومُ على رأسِ المالِ المستحقِّ. هذا لا يؤثّرُ فقط على قدرتِهم على سدادِ الدّيونِ، بل يقلّلُ أيضاً من قدرتِهم على تمويلِ المشترياتِ الأساسيةِ التي كانت تُعتبرُ المحرك الرئيسيّ لنموِّ الاقتصادِ الأمريكيِّ خلال السنواتِ الثلاثِ الماضية.
هناك عدةُ أسبابٍ تفسّرُ هذا الارتفاع التاريخيّ في استخدامِ بطاقاتِ الائتمانِ ومستوياتِ الدّيونِ. ففي بدايةِ جائحةِ كورونا، أدّتِ التوقّفاتُ الاقتصاديةُ والانخفاضُ الكبيرُ في الأنشطةِ التّجاريةِ إلى تقليلِ اعتمادِ المستهلكين على بطاقاتِ الائتمانِ في عام 2021. بدلاً من ذلك، اعتمد الكثيرون على مدفوعاتِ التحفيزِ الحكوميةِ ومدّخراتِهم الشخصيةِ لتمويلِ احتياجاتِهم الشرائيةِ المتزايدةِ خلال العامِ التالي.
ومع حلولِ عام 2022، دفعت موجاتُ الإنفاقِ الانتقاميِّ، التي كانت تهدفُ إلى تعويضِ ما فات خلال فترةِ الإغلاقِ، استخدام بطاقاتِ الائتمانِ إلى الارتفاعِ مرةً أخرى. لكنّ هذا الارتفاع لم يكن مدفوعاً فقط بالرّغبةِ في الإنفاق، بل أيضاً بتناقصِ المدّخراتِ التي كانت تُستخدمُ سابقاً لتمويلِ المشترياتِ نقداً. ونتيجةً لذلك، بدأ ذوو الدخلِ المنخفضِ يعتمدون بشكلٍ متزايدٍ على بطاقاتِ الائتمانِ حتى لشراءِ السلعِ الأساسيةِ، ممّا زاد من احتمالاتِ تفاقمِ الديونِ ومعدلاتِ التأخرِ في السّداد.
قال بول سيغفريد، نائبُ الرئيسِ الأولِ في "ترانس يونيون": "يبدو أنّ الشّرائح ذات المخاطرِ العاليةِ تواجهُ ضغوطاً تضخميّةً أكبر، ممّا يدفعُها إلى الاعتمادِ بشكلٍ أكبر على بطاقاتِها، وهذا يتضحُ من خلالِ زيادةِ الأرصدةِ وارتفاعِ نسبِ الاستخدامِ". وأشار إلى أنّ معدلاتِ التأخرِ في السّدادِ ستستمرُّ في الارتفاعِ، رغم أنّ معدل النموِّ قد يتباطأ قليلاً.
ورغم هذهِ التّحدياتِ، هناك بعضُ التّفاؤلِ بشأنِ المستقبلِ. إذ يشيرُ تقريرُ "ترانس يونيون" إلى أنّ العديد من ذوي الدّخلِ المنخفضِ الذين يعتمدون على منتجاتِ الائتمانِ لسدِّ الفجواتِ الماليةِ في ميزانياتِهم قد يحصلون قريباً على بعضِ التّخفيفِ. فمن المتوقعِ أن يتدخّل الاحتياطيُّ الفيدراليُّ لخفضِ أسعارِ الفائدةِ، مما قد يقللُ من الأعباءِ الماليةِ على المستهلكين.
بالطبعِ، هذا لن يحلّ مشكلة الدّيونِ المتراكمةِ بالكاملِ، لكنّهُ قد يخفّفُ من تأثيرِ الفوائدِ المرتفعةِ على الالتزاماتِ الماليةِ الحاليّةِ، ممّا يمنحُ المستهلكين بعض المتنفّسِ الماليِّ، ويزيدُ من قدرتِهم على الشّراءِ دون ترددٍ كبيرٍ.