سر الاحتفاظ بالموظفين: كيف تحول أفراد فريقك إلى قادة مميزين؟
استراتيجيات مبتكرة لتحفيز الإبداع وزيادة الولاء في بيئات العمل الفعّالة
تشكّل مشكلة "معدّل الاستقالات والتّعيينات" تكلفةً باهظةً على الشّركات، حيث تقدّر الدّراسات أنّ التّكلفة قد تتراوح بين 90% إلى 200% من الرّاتب السّنويّ للموظّف، وتزداد المشكلة تعقيداً عندما تكشف الأبحاث أنّ عدداً كبيراً من الموظّفين يخطّطون لترك وظائفهم في شركاتهم الحاليّة خلال الاثني عشر شهراً مقبلاً. فإذا كان هذا الواقع مألوفاً لديك، إنّ معالجة هذه الظّاهرة لا يمكن أن تتحقّق بشكلٍ سريعٍ أو فوريٍّ، إذ يتطلّب الأمر وضع استراتيجيّاتٍ مدروسةٍ لتعزيز تفاعل الموظّفين، إلى جانب بذل جهدٍ مستمرٍّ على المدى الطّويل لإعادة صياغة ثقافة العمل وتوجيه القيادة نحو المسار الصّحيح.
وللشّروع في هذا التّغيير الإيجابيّ، يجب أن يعيد القادة، بغضّ النّظر عن مستوياتهم، النّظر في طريقة تعاملهم مع الموظّفين، إذ ينبغي عليهم أن يتعاملوا مع الموظّفين كشركاء حقيقيّين في العمل، وأن يعتمدوا أسلوباً رياديّاً في تحفيز القوى العاملة وإشراكها بفعّاليّةٍ في تحقيق أهداف المؤسّسة.
من خلال عملي كمدرّبٍ تنفيذيٍّ، أتيح لي تحليل البيانات الّتي تشرح الأسباب الحقيقيّة وراء استقالة الموظّفين وتركهم وظائفهم، ويتلخّص السّبب الرّئيسيّ، الّذي أسمعه باستمرارٍ في بيئات العمل الّتي تعتمد على "الإدارة التّفصيليّة" (Micromanagement)، في شكوى تتكرّر كثيراً، وتتمثّل في هذه العبارة البسيطة المكوّنة من ثماني كلماتٍ: "أريد أن أكون مسؤولاً عن عملي".
تحتاج المؤسّسات إلى تمكين موظّفيها ومنحهم الثّقة الكافية ليشعروا بأنّهم يملكون مسؤوليّةً حقيقيّةً عن أعمالهم، فحين يتمّ توظيف أشخاصٍ أذكياء ومؤهّلين، يكون الهدف الأساسيّ هو الاستفادة من قدراتهم العقليّة واتّخاذهم قراراتٍ سليمةً، ولكن السّؤال الأهمّ هنا: هل تتيح لهم فعلاً تلك الحرّيّة لاتّخاذ القرارات؟
على سبيل المثال، فكّر فيما إذا كنت تطلع موظّفيك على الصّورة العامّة والشّاملة لأهداف وأعمال المؤسّسة، وما إذا كُنتَ تتيح لهم فرصةً حقيقيّةً للتّعبير عن آرائهم وطرح أفكارهم على الطّاولة، فهذا النّوع من التّمكين يمنحهم الشّعور بالملكيّة، ويشجّعهم على التّفكير والتّصرّف كأنّهم أصحاب العمل. عندما تفعل ذلك، فإنّك تزيل الخوف من بيئة العمل، وتتيح لموظّفيك المميّزين قيادة الأمور بثقةٍ؛ لأنّ الحقيقة هي أنّ بعضهم قد يكون أكثر ذكاءً وخبرةً من المدير نفسه في بعض الجوانب.
وقد أثبتت لي تجربتي، الممتدّة لأكثر من عشرين عاماً في تدريب القادة الكبار، أنّ منح الموظّفين مسؤوليّةً حقيقيّةً عن أعمالهم لا يؤدّي فقط إلى زيادة مشاركتهم، بل يخلق أيضاً ثقافة أداءٍ عاليةً داخل المؤسّسة.
ولكن تحقيق هذه الثّقافة يبدأ منذ الخطوة الأولى: التّوظيف، إذ يجب أن تركّز عمليّة التّوظيف على اختيار أشخاصٍ يتمتّعون بذكاءٍ ورؤيةٍ رياديّةٍ، ويمتلكون روح المبادرة والفضول، وألّا يخافوا من تحدّي الوضع الرّاهن، فهؤلاء الموظّفون يشكّلون الأساس لفريق عملٍ استثنائيٍّ يمكنه تحقيق أهداف المؤسّسة بفعّاليّةٍ وإبداعٍ.
ولتمكين الموظّفين من التّفكير والتّصرّف بعقليّة أصحاب الأعمال، يجب على القادة أن يمنحوا الحرّيّة لاتّخاذ القرارات دون قيودٍ تعيقهم، إذ يتطلّب ذلك استعداد القادة لتغيير أسلوب قيادتهم جذريّاً، بحيث يصبح التّركيز على تفويض الصّلاحيّات وتبسيط عمليّات اتّخاذ القرار. ومن خلال بناء هيكلٍ تنظيميٍّ أكثر مرونةً وانسيابيّةً، يمكن للقادة خلق بيئةٍ تشجّع على الإبداع، وتتيح للقيادة أن تزدهر في جميع مستويات المؤسّسة.
فيما يلي خمس خطواتٍ أوصي بها القادة والمديرون لتعزيز الرّوح الرّياديّة بين الموظّفين:
1. قلّل القواعد المفرطة
تقتل السّياسات والإجراءات المفرطة الإبداع، وتعيق الابتكار، وتخلق بيئة عملٍ مرهقةً وغير محفّزةٍ. لذلك، يجب أن تقلّل القواعد غير الضّروريّة، وتعمل على تبسيط العمليّات، ويمكن تحقيق ذلك من خلال "تقليص القواعد"، بتقييم القوانين والسّياسات الموجودة واختصارها لتكون أكثر بساطةً ووضوحاً.
ولتحقيق نتائج أفضل، أنشئ فريقاً متعدّد الوظائف يضمّ أفراداً من أقسامٍ مختلفةٍ، وامنح هذا الفريق مهمّة تحديد القواعد والإجراءات البيروقراطيّة الّتي تعيق العمل، واقترح بدائل أو حلولاً لتقليلها أو إزالتها تماماً. لا يساعد هذا النّهج فقط على التّخلّص من العوائق الّتي تبطئ العمل، ولكنّه يبقي الأنظمة داخل المؤسّسة مرنةً وقابلةً للتّكيّف مع التّغيّرات، ممّا يعزّز من القدرة على الابتكار واستيعاب الأفكار الجديدة بسهولةٍ.
2. حوّل الأفكار إلى أفعالٍ
اجعل الموظّفين يشعرون بأنّ أفكارهم لها قيمةٌ حقيقيّةٌ، وشجّعهم على تنفيذها عمليّاً، فعندما يقدّم أحدهم فكرةً، خاصّةً إذا كانت تتجاوز نطاق مهامّه اليوميّة، ساعده على التّواصل مع الأشخاص أو الأقسام المناسبة لتحويل فكرته إلى واقعٍ، إذ إنّ دعمك هذا يعزّز من ثقافة التّعاون داخل المؤسّسة، ويخلق بيئةً تحفّز على الإبداع وتطوير المهارات، وعندما يرى الموظّفون أنّ أفكارهم تنفّذ، فإنّ ذلك يزيد من شعورهم بالمشاركة والمسؤوليّة، ويساهم في تحفيز الابتكار عبر جميع مستويات المؤسّسة.
3. كافئ التّفكير الرّياديّ
احرص على تقدير الموظّفين الّذين يظهرون فكراً مبتكراً، ويقدّمون أفكاراً ذات تأثيرٍ إيجابيٍّ، بغضّ النّظر عن حجم هذه الأفكار. سواءً أسهمت في تحسين تجربة العملاء، أو عزّزت الكفاءة، أو حقّقت نتائج أفضل للمؤسّسة، فإنّ الإشادة بهذه المساهمات تعدّ أساسيّةً، ويمكنك القيام بذلك من خلال تنظيم احتفالاتٍ دوريّةٍ أو منح مكافآتٍ، مثل شهادات تقديرٍ أو جوائز رمزيّةٍ، للتّأكيد على أهمّيّة هذه الأفكار، فالاحتفاء بالمبادرات الرّياديّة يعزّز ثقافة العمل الاستباقيّ، ويحفّز الموظّفون على الإبداع باستمرارٍ.
4. اجعلهم جزءاً من الصّورة الكبرى
أشرك الموظّفين في رؤية المؤسّسة وأهدافها الاستراتيجيّة ليشعروا بأنّهم جزءٌ من مسيرة النّجاح، فقدّم لهم معلوماتٍ واضحةً حول الأهداف طويلة المدى، وبيانات الأداء، وأيّ تغييراتٍ مستقبليّةٍ، كما أنّ إشراكهم في مثل هذه التّفاصيل يساعدهم على اتّخاذ قراراتٍ مدروسةٍ، ويعزّز من توافق جهودهم مع الأهداف العامّة للمؤسّسة. بالإضافة إلى ذلك، يعطيهم هذا النّهج إحساساً بالملكيّة والمسؤوليّة، ممّا يجعلهم أكثر ارتباطاً بتحقيق النّجاح المؤسّسيّ.
5. عزّز ثقافة الحوار المفتوح
افتح المجال أمام الموظّفين لطرح الأسئلة والتّعبير عن آرائهم، حتّى وإن كانت الأسئلة صعبةً، أو تتعلّق بمسائل حسّاسةٍ، فعندما تشجّع ثقافة الشّفافيّة والحوار المفتوح، فإنّك تبني الثّقة داخل فريق العمل وتشجّع التّعاون، وعندما يشعر الموظّفون بالأمان للتّحدّث بحرّيّةٍ، فإنّ ذلك يحفّزهم على التّفكير بعمقٍ والمشاركة بفعّاليّةٍ في حلّ المشاكل. لا يسهم الحوار المفتوح فقط في تعزيز التّفاهم، بل يخلق بيئة عملٍ متماسكةً قادرةً على مواجهة التّحدّيات بمرونةٍ وثقةٍ.