سرُّ تغيير الشّخصية: كيف يمكنك إعادة تشكيل ذاتك بسهولة؟
أستاذة علم النفس بجامعة كنتاكي تكشف عن خطواتٍ بسيطةٍ وفعّالةٍ لتغيير الشخصية، مستندة إلى تجربتها الشخصية وأحدث الأبحاث
كثيرون منّا يتمنّون لو استطاعوا تغيير جوانب محدّدةً من شخصيّاتهم. ربّما يشعر البعضُ بأنّهم بحاجةٍ إلى المزيد من الجرأة للتّعبير عن آرائهم بثقةٍ أكبر، أو قد يتمنّى آخرون أن يكونوا أكثر مثابرةٍ في مواجهة التّحدّيات اليوميّة. وهناك من يرغبُ في أن يصبح أكثر انفتاحاً في التّعامل مع الآخرين، وبناء علاقاتٍ أعمق وأوسع. هذه الرّغباتُ شائعةٌ جدّاً، لكنّها في بعض الأحيان تبدو وكأنّها مهامُّ مستحيلةٌ، وكأنّ السّمات التي نشأنا عليها ترافقنا طوال حياتنا بدون تغييرٍ. ولكن، هل نحن حقّاً محكومون بسماتنا الفطريّة؟ الإجابةُ العلميّةُ على هذا السّؤال هي "لا".
في دراسةٍ رائدةٍ استمرّت لأكثر من 64 عاماً، قام الباحثون بتتبّع نتائج اختبارات الشّخصيّة لأفرادٍ عبر مراحل حياتهم المختلفة، ووجدوا أنّ سمات الشّخصيّة التي تظهرُ في مرحلة المراهقة ليست بالضّرورة مرتبطةً بسمات الشّخصيّة التي يظهرها الشّخصُ في السّبعينيّات من عمره. هذا الاكتشافُ كان بمثابة صدمةٍ لكثيرين، إذ أظهر بوضوحٍ أنّ الشّخصيّة ليست ثابتةً كما كنّا نعتقدُ. بل هي، على العكس من ذلك، تتغيّرُ وتتحوّرُ على مرّ الزّمن. هذه الحقيقةُ تفتحُ أمامنا باباً واسعاً للتّساؤل: إذا كانت الشّخصيّةُ تتغيّرُ بالفعل مع مرور الوقت، فهل يمكننا نحن أن نتحكّم في هذا التّغيير؟ هل يمكننا تسريعه أو توجيهه في الاتّجاه الذي نريدُه؟ الإجابةُ هي نعم.
من مراهقةٍ كسولةٍ إلى باحثةٍ ناجحة: قصّةُ تحوّلٍ ملهمة
لنأخذ مثالاً حقيقيّاً يوضّحُ لنا كيف يمكنُ لشخصٍ ما أن يغيّر سماته الشّخصيّة بشكلٍ جذريّ. شانون ساور-زافالا، أستاذةُ علم النّفس بجامعة كنتاكي، شاركت قصّتها الشّخصيّة الملهمة في مقالةٍ على موقع Psychology Today. في مرحلة الثّانويّة، لم تكن شانون طالبةً متميّزةً؛ كانت خجولةً وغير مرتّبةٍ، وتغيبُ عن حصص الرّياضيّات بشكلٍ متكرّرٍ، لدرجة أنّها رسبت في مادّة الجبر. في تلك المرحلة، لم يكن أحدٌ يتوقّعُ أن تتحوّل هذه الطّالبةُ الكسولةُ إلى شخصيّةٍ ناجحةٍ تتمتّعُ بشهرةٍ واسعةٍ في مجالها الأكاديميّ. ولكن هذا ما حدث بالفعل.
بعد سنواتٍ من تعثّرها الأكاديميّ في المدرسة الثّانويّة، استطاعت شانون الحصول على درجة الدّكتوراه، وأصبحت أستاذةً جامعيّةً مرموقةً، وقدّمت محاضراتٍ في TEDx، وحقّقت نجاحاً كبيراً في حياتها المهنيّة. تقول شانون: "أحبّ أن أخبر النّاس بقصّتي الشّخصيّة كوسيلةٍ لكسر الأسطورة التي تقولُ إنّ السّمات ثابتةٌ، ولا يمكنُ تغييرُها". هذا التّصريحُ يعكسُ الحقيقة التي توصّلت إليها شانون من خلال تجربتها الشّخصيّة: يمكنُ للسّمات الشّخصيّة أن تتغيّر وتتطوّر بمرور الوقت، إذا ما توفّرت الإرادةُ والعزيمةُ لذلك.
بدايةُ التّغيير: اكتشافُ الشّغف
نقطةُ التّحوّل في حياة شانون جاءت عندما التحقت بدورة مقدّمةٍ في علم النّفس خلال دراستها الجامعيّة. على الرّغم من أنّ المحاضرات كانت تُعقدُ في الثّامنة صباحاً، وهو وقتٌ قد يكونُ صعباً للكثير من الطّلاب، إلّا أنّ شانون كانت حريصةً على الحضور بانتظامٍ. شيئاً فشيئاً، بدأت تكتشفُ شغفها الحقيقيّ بعلم النّفس، وبدأت تتفوّقُ في هذه المادّة. أداؤُها الجيّدُ في الامتحانات، وردودُ الفعل الإيجابيّة التي تلقّتها من المساعد التّدريسيّ، عزّزت من ثقتها بنفسها، ودفعتها للتّفكير في التّخصص في هذا المجال.
هذا التّشجيعُ الإيجابيُّ لم يغيّر فقط نظرة شانون لنفسها كطالبةٍ، بل غيّر أيضاً تصوّرها لقدراتها وإمكاناتها. لم تعد ترى نفسها كطالبةٍ عاديّةٍ أو ضعيفةٍ في الرّياضيّات، بل بدأت ترى نفسها كطالبةٍ "جيّدةٍ في علم النّفس"، وبدأت تتصرّفُ بناءً على هذا التّصوّر الجديد. وعندما أخبرها أحدُ أساتذتها بأنّ معدّلها التّراكميّ لا يؤهّلُها لدخول الدّراسات العليا، لم تستسلم. بل دفعتها هذه العقبةُ إلى بذل مجهودٍ أكبر وتحقيق أداءٍ أفضل في موادّها الدّراسيّة الأخرى. كانت هذه بداية تحوّلها من طالبةٍ غير مباليةٍ إلى باحثةٍ ناجحةٍ.
خطواتٌ صغيرةٌ تؤدّي إلى نتائج كبيرةٍ
قصّةُ شانون تبرزُ جانباً مهمّاً في عمليّة تغيير الشّخصيّة: التّحوّلاتُ الكبيرةُ غالباً ما تبدأُ بخطواتٍ صغيرةٍ. لم تكن التّغييراتُ التي أجرتها شانون دراماتيكيّةً أو مفاجئةً. بل كانت عبارةً عن سلسلةٍ من الإجراءات الصّغيرة المتكرّرة، مثل تحسين تنظيم جدولها اليوميّ، والالتزام بحضور المحاضرات، والاهتمام بتطوير مهاراتها الأكاديميّة. هذه الإجراءاتُ البسيطةُ أدّت تدريجيّاً إلى نتائج إيجابيّةٍ زادت من ثقتها بنفسها، ودفعتها إلى الاستمرار في تحسين شخصيّتها وتطويرها.
الأفعالُ تشكّلُ الشّخصيّة: كيف نصنعُ التّغيير؟
رغم أنّ التّغييرات الصّغيرة قد تبدو غير ملحوظةٍ في البداية، إلّا أنّها تتراكمُ بمرور الوقت لتحدث تغييراتٍ جوهريّةً في الشّخصيّة. ورغم ذلك، لا يزالُ الكثيرون منّا يعتقدون أنّهم محكومون بسماتهم الشّخصيّة، وأنّ هذه السّمات ثابتةٌ، ولا يمكنُ تغييرُها. ولكن قصّة شانون ليست استثناءً، بل هي مثالٌ على قدرة الإنسان على تغيير ذاته.
تشيرُ الأبحاثُ الحديثةُ إلى أنّ التّغييرات البسيطة في سلوكنا اليوميّ يمكن أن تؤدّي إلى تغييراتٍ كبيرةٍ في سماتنا الشّخصيّة. على سبيل المثال، أظهرت دراسةٌ أنّ الانخراط في أنشطةٍ مستهدفةٍ، مثل التّواصل مع أصدقاء قدامى أو ممارسة تقنيات الاسترخاء كالتّنفس العميق، يمكن أن يؤدّي إلى تغييرٍ في سمات الشّخصيّة مثل الانطواء والعصبيّة. هذه الأنشطةُ قد تبدو بسيطةً، لكنّها تحملُ تأثيراً كبيراً إذا ما تمّت ممارستُها بانتظامٍ.
الشّخصيّةُ مرآةُ الأفعال: كيف تؤثّرُ اختياراتُنا على سماتنا؟
في محاضرةٍ ألقاها على منصّة TED، أشار براين ليتل، أستاذُ علم النّفس بجامعة كامبريدج، إلى أنّ ما نقومُ به في حياتنا اليوميّة هو ما يشكّلُ شخصيّاتنا في النّهاية. "ما الذي يجعلُنا مختلفين؟ إنّها الأفعالُ التي نقومُ بها في حياتنا، والمشاريعُ الشّخصيّةُ التي ننخرطُ فيها"، يقول ليتل. فالأشخاصُ الذين يسعون بجدّيّةٍ لتحقيق أهدافهم، ويعملون بانتظامٍ على تحسين أنفسهم هم من يصنعون الفرق في حياتهم.
الكاتبُ ديفيد بروكس يتّفقُ مع هذا الرّأي، حيث يرى أنّ الالتزامات التي نتّخذُها في حياتنا تؤثّرُ بشكلٍ كبيرٍ على شخصيّاتنا. الأشخاصُ الذين نُعجبُ بهم بسبب مرونتهم ليسوا بالضّرورة أقوياء جسديّاً، ولكنّهم يمتلكون شغفاً عميقاً وملتزمون تجاه قضيّةٍ أو فكرةٍ أو علاقةٍ معيّنةٍ. هذا الالتزامُ الحماسيُّ هو ما يدفعُهم لتجاوز الصّعاب وتحقيق أهدافهم. مثالٌ على ذلك هو زعيمُ الحقوق المدنيّة جون لويس، الذي استمدّ شجاعته وقوّته من تفانيه لقضيّة العدالة الاجتماعيّة.
خلاصةُ القول: الطّريقُ إلى التّغيير يبدأُ بخطوةٍ
في نهاية المطاف، تقودُنا كلُّ هذه الأفكار إلى رسالةٍ متفائلةٍ وواضحةٍ: نحن لسنا محكومين بسماتنا الشّخصيّة الحاليّة. طالما أنّك في حالةٍ صحّيّةٍ عقليّةٍ مستقرّةٍ، فإنّك قادرٌ على تغيير نفسك وشخصيّتك بمرور الوقت. لا تحتاجُ إلى تغييراتٍ جذريّةٍ أو تدخّلاتٍ ضخمةٍ لتحقيق ذلك. كلُّ ما تحتاجُه هو البدءُ في اتّخاذ خطواتٍ صغيرةٍ وتدريجيّةٍ نحو التّغيير.
تختصرُ شانون ساور-زافالا هذه العمليّة في خطّة عملٍ من أربع نقاطٍ رئيسيّةٍ:
- دع أحلامك وطموحاتك تكونُ البوصلة التي توجّهُك نحو السّمات التي ترغبُ في تطويرها.
- تحدّ المعتقدات التي تقيّدُك، مثل فكرة "لا أستطيعُ القيام بـ X لأنّني لست X بما يكفي". استبدل هذه الأفكار بمعتقداتٍ أكثر إيجابيّةٍ.
- راقب أنماط سلوكك الحاليّة التي تشعرُ بأنّها تعيقُ تقدّمك. تخيّل كيف سيتصرّفُ شخصٌ يمتلكُ السّمة التي ترغبُ بها، وابدأ بتجربة هذه السّلوكيات في حياتك اليوميّة.
- احتفل بالمكافآت والإنجازات التي تحقّقُها نتيجةً لهذه التّغييرات الصّغيرة. هذا الشّعورُ بالإنجاز سيحفّزُك على الاستمرار في المسار الصّحيح.
تغييرُ الشّخصيّة قد يبدو مهمّةً شاقّةً، لكنّ الحقيقة هي أنّ التّحوّلات الكبيرة غالباً ما تبدأُ بخطواتٍ صغيرةٍ ومستدامةٍ. لا تنتظر حدوث تغييرٍ جذريٍّ في حياتك بين عشيةٍ وضحاها. ابدأ اليوم بخطوةٍ صغيرةٍ، وسترى كيف يمكنُ لهذه الخطوات أن تتراكم وتحدث فرقاً كبيراً على المدى الطّويل. الشّخصيّةُ ليست ثابتةً، بل هي نتاجُ الأفعال والاختيارات التي نقومُ بها يوميّاً. لذا، لا تتردّد في اتّخاذ الخطوة الأولى نحو التّغيير، وستفاجأُ بما يمكنك تحقيقُه مع مرور الوقت.