سوريا على خريطة التكنولوجيا مجدداً مع مؤتمر SYNC’25
أكثر من 200 مغترب سوري من كبار قادة الصّناعة يجتمعون مع المواهب المحليّة لبناء جسور علميّة، معرفيّة، ومهنيّة بين كاليفورنيا وسوريا
في مشهدٍ غير مسبوقٍ، احتضنت دمشق مؤتمر SYNC’25، الّذي جمع نخبةً من روّاد الأعمال، المهندسين، والمستثمرين السّوريّين والعالميّين، ليضع سوريا على خريطة التّكنولوجيا العالميّة مجدّداً. وسط أجواءٍ من الحماسة والطّموح، والرّغبة الحقيقيّة في التّغيير، اجتمع أكثر من 200 مغتربٍ سوريٍّ عادوا إلى دمشق للمشاركة في هذا الحدث، الّذي حمل عنواناً يعكس جوهره: "هيّا نناقش التّكنولوجيا".
هذا المؤتمر مبادرةٌ أطلقها روّاد أعمالٍ ومهندسون سوريّون-أمريكيّون من وادي السّيليكون، ويهدف إلى بناء جسور التّواصل بين المواهب السّوريّة داخل البلاد وخارجها، وربطهم بالشّركات الرّائدة عالميّاً، في خطوةٍ تعكس إصرار السّوريّين على تجاوز التّحدّيات دون تململٍ، واستعادة دورهم في المشهد الرّقميّ العالميّ. السّمة الّتي وصفها ياسين عجّة بأنّها "روح وادي السّيليكون".
وفي هذا السّياق، صرّح باسل ياسين عجّة، أحد المؤسّسين الرّئيسيّين لـSYNC’25 والمؤسّس والرّئيس التّنفيذيّ لشركة "ليجا داتا" (LigaData)، قائلاً: "هدفنا هو بناء جسورٍ علميّةٍ، معرفيّةٍ، ومهنيّةٍ بين كاليفورنيا وسوريا. نؤمن بقدرات المواهب السّوريّة، ونسعى لربطها بالمديرين التّنفيذيّين والمهندسين في وادي السّيليكون. هذا المؤتمر هو خطوةٌ نحو مشاريع تعاونٍ ستسهم في تشكيل مستقبل سوريا التّكنولوجيّ".
وأضافت عبير بنبوك، مديرة المشاريع وإحدى القياديّات في التّنظيم: "المجتمع السّوريّ أشبه بأحجيةٍ مبعثرةٍ، وهذا المؤتمر هو الخطوة الأولى نحو إعادة تجميعها"، مؤكّدةً أنّ SYNC'25 ليس مجرّد لقاءٍ مهنيٍّ، بل حركةٌ فكريّةٌ تهدف إلى إعادة تعريف مستقبل التّكنولوجيا في سوريا.
ولإبراز الالتزام بالشّموليّة بشكلٍ أكبر، شكّلت ترجمة لغة الإشارة خطوةً لافتةً في تمكين جميع الفئات من الوصول إلى محتوى الجلسات، لخلق بيئةٍ تكنولوجيّةٍ شاملةٍ تتّسع للجميع دون استثناءٍ.
من الجلسة الافتتاحية حقوق الصورة: sync'25
التعليم الأكاديمي والصناعة وجهاً لوجه
بدأ المؤتمر بجلسةٍ افتتاحيّةٍ شارك فيها روّاد الصّناعة والخبراء الأكاديميّون، حيث ناقشوا التّحدّيات الّتي تواجه التّعليم الهندسيّ في سوريا، وسبل جسر الهوّة بين المناهج الأكاديميّة ومتطلّبات السّوق. أدار الجلسة حسّان صوّاف، الرّئيس التّنفيذيّ في aiXplain، بمشاركة شخصيّاتٍ بارزةٍ مثل الدّكتورة نوار الشّرع، الدّكتور باسل الخشّي، الدّكتور عمّار جوخدار، والدّكتور ماهر حكيمٍ.
أكّد المتحدّثون أنّ التّعليم يجب ألّا يكون معزولاً عن سوق العمل، إذ علّق الدّكتور ماهر حكيمٌ قائلاً: "بناء الشّخصيّة خلال التّعليم هو العنصر الأهمّ. لا يمكننا الانتظار حتّى يتخرّج الطّلّاب ليبدؤوا التّعلّم العمليّ. علينا أن ندمجهم في بيئة العمل منذ اليوم الأوّل داخل الجامعة".
أمّا الدّكتورة نوار الشّرع، فقد شدّدت على أنّ "الارتباط بين الصّناعة والتّعليم الأكاديميّ هو ما يساعد الخرّيجين على دخول سوق العمل بسرعةٍ، وهذا هو المعيار الحقيقيّ للحكم على نجاح أيّ برنامجٍ تعليميٍّ".
في حين أشار الدّكتور باسل الخشّي إلى أنّ "الخروج من العزلة السّياسيّة هو الخطوة الأولى للخروج من العزلة التّكنولوجيّة"، مضيفاً أنّ الشّركات السّوريّة مطالبةٌ اليوم بالخروج إلى العلن، والبدء في بناء شراكاتٍ عالميّةٍ".
من جلسة التعليم والصناعة حقوق الصورة: sync'25
عقوبات أم فرص؟
ناقش المؤتمر تأثير العقوبات الاقتصاديّة المفروضة على سوريا، حيث أشار بعض المتحدّثين إلى أنّها تـمثّل عائقاً كبيراً يحدّ من قدرة الشّركات النّاشئة على الانخراط في السّوق العالميّة. في المقابل، رأى آخرون أنّ هذه العقوبات قد تشكّل فرصةً للشّركات المحلّيّة لتعزيز وجودها في السّوق الدّاخليّ، والاستعداد للانفتاح العالميّ مستقبلاً. هذا التّحضير يمكن أن يجعل تلك الشّركات جذّابةً للاستثمار من قبل الشّركات العالميّة، ممّا يتيح لها فرص النّموّ بدلاً من أن تكون ضحيّةً للمنافسة.
"العقوبات نوعٌ من التّحدّي، وهناك طريقتان للتّعامل معها: إمّا اعتبارها حاجزاً يمنعنا من التّقدّم، أو أن نسأل أنفسنا: ماذا يمكننا أن نفعل اليوم حتّى نكون مستعدّين عندما يتمّ رفعها؟"، يقول الدّكتور إياد يعقوب، الباحث في علوم السّلوك ومدرّب القيادة، مشيراً إلى أنّ التّكيّف والابتكار هما المفتاح لتجاوز هذه العقبات.
وضرب يعقوب مثالاً عن شركة أوبر، الّتي تعرّضت لعقوباتٍ، ومنعت من العمل في بعض الدّول، لكنّها استطاعت أن تتأقلم، وتجد حلولاً بديلةً، حتّى أصبحت الآن من أكبر الشّركات العالميّة. وأضاف: "في اليومين القادمين، سنسمع قصص نجاحٍ لأشخاصٍ تمكّنوا من تجاوز العقوبات وخلق فرصٍ جديدةٍ لأنفسهم ولغيرهم".
عقليّة وادي السّيليكون: هل يمكن نقلها إلى سوريا؟
تحدّث فراس خليفة، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة "كاربون موبايل" (Carbon Mobile) وأحد المتحدّثين الرّئيسيّين، عن ضرورة تطوير بيئة عملٍ مشابهةٍ لوادي السّيليكون داخل سوريا، قائلاً: "الأشياء الّتي تبدو سهلة المنال لمهندسي البرمجيّات في العالم، لا تزال تحدّياً كبيراً في سوريا. لكنّ ذلك لا يعني أنّها مستحيلةٌ".
وأضاف: "التّواصل هو مفتاح النّجاح. علينا أن نشجّع المبادرات، ونفتح القنوات مع وادي السّيليكون، لأنّ ذلك سيعطي السّوريّين فرصةً للوصول إلى معايير عالميّةٍ في التّكنولوجيا".
من جهته، أكّد عبدالوهّاب عميرة، مؤسّس "فارمتيكس" (Farmitix)، أنّ التّكنولوجيا اليوم تمثّل "أكبر فرصةٍ في تاريخ سوريا"، نظراً للانقطاع الطّويل عن العالم، لكن في المقابل هناك طاقةٌ وإصرارٌ غير مسبوقين".
المرأة السّوريّة في التّكنولوجيا: قوّةٌ لا يمكن تجاهلها
خصّص المؤتمر جلسةً لمناقشة دور المرأة السّوريّة في التّكنولوجيا، حيث تحدّثت نور الخطيب، ربى هاشم، مايا تقي، وميسر تقي الدّين عن تجاربهنّ في قطاعٍ لا يزال ذكوريّاً إلى حدٍّ كبيرٍ".
وجود النّساء في التّكنولوجيا ليس مجرّد مسألة مساواةٍ، بل هو ضرورةٌ لخلق بيئةٍ إبداعيّةٍ متنوّعةٍ. التّجربة أثبتت أنّ الفرق الّتي تضمّ نساءً تحقّق نتائج أفضل على مستوى الابتكار والإنتاجيّة "، تقول ميسر تقي الدّين، الّتي ولدت وعاشت في الولايات المتّحدة، لكنّها اختارت أن تكون جزءاً من هذه المبادرة إيماناً منها بأنّ "الحبّ والإخلاص للوطن هما الدّافع الحقيقيّ لهذا المؤتمر".
التعليم عن بعد
ناقش الحضور أهمّيّة التّعليم الرّقميّ كبديلٍ عمليٍّ في ظلّ تحدّيات البنية التّحتيّة ونظام التّعليم التّقليديّ. وأنّ الحلّ يكمن في التّحوّل نحو نموذجٍ تعليميٍّ أكثر مرونةً، يعتمد على التّعلّم عبر الإنترنت، بدلاً من الانتظار لإصلاح النّظام التّعليميّ بالكامل".
نحتاج إلى حلولٍ براغماتيّةٍ. التّعليم عبر الإنترنت يمكن أن يكون الحلّ الأمثل لسوريا، لأنّه يتجاوز مشكلة البنية التّحتيّة، ويمنح الشّباب فرصةً للتّعلّم والتّدريب، بغضّ النّظر عن مكان إقامتهم"، برأي الدّكتور إياد يعقوب.
الاستثمار والتّكنولوجيا: إلى أين نذهب؟
في الجلسة الختاميّة الّتي حملت عنوان "خارطة طريق الاستثمار في التّكنولوجيا السّوريّة"، اجتمع نخبةٌ من الخبراء لمناقشة الفرص والتّحدّيات الّتي تواجه الاستثمار في القطاع التّكنولوجيّ في سوريا. أدار النّقاش فراس خليفة، وشارك فيه كلٌّ من عبدالوهّاب عميرة، الدّكتور إياد يعقوب، وباسل عجّة، حيث قدّموا رؤًى استراتيجيّةً حول كيفيّة استقطاب الاستثمارات الخارجيّة وتعزيز بيئة الأعمال الرّقميّة المستدامة.
أجمع المشاركون على أنّ سوريا تمتلك كوادر تقنيّةً متميّزةً، قادرةً على المساهمة في الاقتصاد الرّقميّ العالميّ، لكنّ التّحدّيات الاقتصاديّة والسّياسيّة تجعل جذب الاستثمارات أمراً معقّداً. لذا، تطرّق النّقاش إلى كيفيّة تجاوز العقوبات الدّوليّة، واستغلال الفرص المتاحة في قطاع التّكنولوجيا.
المرحلة القادمة: من دمشق إلى وادي السّيليكون
بعد دمشق، ينتقل مؤتمر SYNC'25 إلى وادي السّيليكون، ليشكّل المرحلة الثّانية من المبادرة، حيث سيتمّ وضع الخطوات القادمة لخلق 25000 فرصة عملٍ في قطاع التّكنولوجيا خلال السّنوات الخمس القادمة. كجزءٍ من مشروعٍ طويل الأمد يستهدف إعادة سوريا إلى قلب الاقتصاد الرّقميّ العالميّ.
مع اختتام المؤتمر، بات واضحاً أنّ SYNC'25 بدايةٌ لحركةٍ مستدامةٍ تهدف إلى خلق بيئةٍ تكنولوجيّةٍ تنافسيّةٍ داخل سوريا. والمرحلة القادمة من المبادرة ستكون في وادي السّيليكون، حيث سيعقد المؤتمر جزؤه الثّاني في وقتٍ لاحقٍ من فبراير، بهدف توسيع شبكة العلاقات، واستقطاب المزيد من الاستثمارات لدعم الشّركات السّوريّة النّاشئة". أمّا الخطوة التّالية فهي بناء شبكاتٍ وعلاقاتٍ، تحديد التّحدّيات والفرص، والاستفادة من خبرات وادي السّيليكون لتطوير المواهب السّوريّة"، وفقاً لميسر تقي الدّين.