غرسةٌ دماغيةٌ تعيد القدرة على الكلام لمريض ALS
نجحت شركةٌ ناشئةٌ في يوتا في تمكين مريض يعاني من التّصلّبِ الجانبيِّ الضموريِّ من التّحدث باستخدام غرسةٍ دماغية، ممّا يفتح آفاقاً جديدةً في تكنولوجيا واجهات الدّماغ والحاسوب
تمكّنت شركةٌ ناشئةٌ في ولايةِ يوتا الأمريكية من تحقيقِ قفزةٍ نوعيةٍ في مجالِ واجهاتِ الدّماغِ والحاسوبِ (Brain-Computer Interface)، ممّا أعاد لمريضٍ يعاني من التّصلّبِ الجانبيِّ الضموريِّ (ALS) القدرة على الكلامِ بعد أن فقدها نتيجةً لتقدّمِ المرضِ.
القصةُ تبدأ مع رجلٍ يبلغُ من العمرِ 45 عاماً، بدأت أعراضُ المرضِ تظهرُ عليه قبل خمسِ سنواتٍ. التّصلّبُ الجانبيُّ الضموريُّ (ALS) هو مرضٌ عصبيٌّ تدريجيٌّ يهاجمُ الخلايا العصبيّة المسؤولة عن الحركةِ، ممّا يؤدّي إلى ضعفِ العضلاتِ وفقدانٍ تدريجيٍّ لقدرةِ الإنسانِ على التّحكّمِ بجسدِه. بالنسبةِ لهذا المريضِ، تطوّر المرضُ إلى درجةٍ جعلته غير قادرٍ على التّعبيرِ بالكلماتِ بشكلٍ طبيعيٍّ. وصل به الحالُ إلى أن يحتاج إلى مساعدةِ مترجمٍ صحيٍّ ليتمكّن من قولِ سبعِ كلماتٍ فقط في الدّقيقةِ. تخيل حجم المعاناةِ التي يشعرُ بها شخصٌ عاجزٌ عن التّواصلِ مع من حوله، حتى في أبسطِ الأمورِ.
في يوليو من عام 2023، قرر الأطباءُ في جامعةِ كاليفورنيا، ديفيس، اتّخاذ خطوةٍ جريئةٍ لمساعدةِ هذا الرّجلِ على استعادةِ صوتِه المفقودِ. قاموا بزرعِ أقطابٍ كهربائيةٍ دقيقةٍ في دماغِه، تحديداً في المناطقِ المرتبطةِ بالكلامِ واللّغةِ. كانت الفكرةُ وراء هذه الجراحةِ هي استخدامُ تكنولوجيا متقدّمةٍ لتفسيرِ الإشاراتِ العصبيةِ القادمةِ من الدّماغِ وتحويلها إلى كلماتٍ مفهومةٍ.
هنا تأتي شركةُ "بلاكروك نيوروتك" (Blackrock Neurotech)، وهي شركةٌ ناشئةٌ تعملُ في مجالِ تطويرِ واجهاتِ الدّماغِ والحاسوبِ. هذه الشركةُ ابتكرت غرسةً تتألّفُ من مئاتِ الأقطابِ الكهربائيةِ الدّقيقةِ، والتي تمّ زرعُها في أربعةِ أماكن مختلفةٍ داخل دماغِ المريضِ. ما يميّزُ هذه التّقنية عن غيرِها من الأنظمةِ التجريبيّةِ السّابقةِ هو عددُ الأقطابِ الكبيرُ الذي يسمحُ بجمعِ كميّةٍ هائلةٍ من البياناتِ العصبيّةِ.
لكنّ جمعَ البياناتِ ليس سوى الخطوةِ الأولى. كان التّحديُّ الأكبرُ هو تطويرُ نظامِ ذكاءٍ اصطناعيٍّ قادرٍ على تفسيرِ هذه الإشاراتِ وتحويلِها إلى كلامٍ مفهومٍ. بعد يومينِ فقط من التّدريبِ على استخدامِ النظامِ، تمكّن المريضُ من التّواصلِ باستخدامِ مفرداتٍ تضمُّ 125,000 كلمةٍ، وحقّق معدّلاً مذهلاً بلغ 32 كلمةً في الدّقيقةِ. بالمقارنةِ مع قدرتِه السّابقةِ على نطقِ سبعِ كلماتٍ فقط في الدّقيقةِ، يمثّلُ هذا الإنجازُ تحوّلاً جذرياً في حياتِه.
لكن ما جعل هذا الإنجاز أكثر تأثيراً هو الطريقةُ التي استعاد بها المريضُ تواصله مع أحبائِه. تخيل أنّه لم يعد مجرد أداةٍ لتوصيلِ الأفكارِ البسيطةِ، بل أصبح قادراً على التفاعلِ مع ابنتِه البالغةِ من العمرِ خمس سنواتٍ، وعلى المزاحِ مع الباحثين الذين يعملون على مشروعِه. قال لهم مازحاً في أحدِ الأيامِ: "كنتُ فقط أُصعّبُ الأمور عليكم لتلطيفِ الأجواءِ." هذه اللحظاتُ الصغيرةُ تعكسُ ما يمكنُ أن تقدمهُ التكنولوجيا من تغييرٍ حقيقيٍّ في حياةِ الإنسانِ.
في السّياقِ الأوسعِ، هذه القصةُ ليست فريدةً من نوعِها. هناك شركاتٌ أخرى تعملُ في هذا المجالِ، مثل "نيرولينك" (Neuralink) التي يملكُها إيلون ماسك، و"سينكرون" (Synchron)، حيثُ يعملون على تطويرِ تقنياتٍ مشابهةٍ. كلُّ شركةٍ من هذه الشركاتِ تقدمُ رؤيتها الخاصة لمستقبلِ التكنولوجيا العصبيةِ، سواء من خلالِ غرساتٍ تزرعُ مباشرةً في الدماغِ، أو من خلالِ وسائل أخرى أقلّ توغلاً. في النهايةِ، الهدفُ المشتركُ لهذه الشركاتِ هو تحسينُ جودةِ حياةِ الأشخاصِ الذين يعانون من أمراضٍ عصبيةٍ حادةٍ، وتمكينُهم من استعادةِ قدراتِهم المفقودةِ.
وفي عصرٍ تتزايدُ فيه قدرةُ التكنولوجيا على تحقيقِ ما كان يُعتبرُ مستحيلاً، تبدو قدرةُ مريضِ ALS على التحدثِ إلى ابنتِه باستخدامِ عقلِه فقط بمثابةِ "قوةٍ خارقةٍ" حقيقيةٍ. هذه القوةُ ليست في التحكمِ بالآلاتِ أو التلاعبِ بالبيئةِ من حولِه، بل في استعادةِ إنسانيتِه، في القدرةِ على التواصلِ مع من يحبُّ، في القدرةِ على الضحكِ، والمشاركةِ في الحياةِ مرةً أخرى.
إنّ هذه القصة تمثلُ فصلاً جديداً في العلاقةِ بين الإنسانِ والتكنولوجيا، فصلٌ يُظهرُ كيف يمكنُ للأبحاثِ والابتكاراتِ أن تُعيد للإنسانِ ما أخذه المرضُ منه، وكيف يمكنُ أن تكون التكنولوجيا وسيلةً لإعادةِ الحياةِ لمن فقدها. إنه إنجازٌ يفتحُ أبواب الأملِ لكثيرين، ويؤكدُ أنّ الحدود التي نعتقدُ أنها موجودةٌ بين الممكنِ والمستحيلِ قد تكونُ أقلّ وضوحاً مما نتصورُ.