فتح أسرار العقل: الطريق نحو "حالة التدفق"
من خلال بحث جديد من جامعة دريكسل، نستكشف كيف يمكن للتصوير العصبي والخبرة المكتسبة أن يمهدا الطريق لتحقيق "حالة التدفق"، تلك الحالة الذهنية العميقة التي تعزز الإبداع والتركيز
في العام 1990، كتب عالم النِّفس ميهالي سيكسزنتميهالي مؤلَّفاً حدَّد فيه مفهوم "التدفق" كحالةٍ ذهنيَّةٍ يستطيع فيها الأفراد توجيه تركيزهم بشكلٍ كاملٍ، وإزاحة المشتِّتات جانباً، وتحقيق مستوياتٍ عاليةٍ من الإنتاجيَّة.
ربَّما تعبِّر عنها بمصطلح "الوجود في المنطقة"، وقد أفنى الكثيرون مسيرتهم المهنيَّة محاولين شرح وتحليل ونهاية وتعليم الآخرين كيفيَّة الدُّخول في هذه الحالة المتميِّزة من التدفق، والآن، يعلن باحثون من جامعة دريكسل في فيلادلفيا أنَّهم استطاعوا، بواسطة تقنيَّات التَّصوير العصبيّ المتقدِّمة، رصد حالة التدفق في أدمغة الأشخاص مباشرةً، وهم يقدِّمون بذلك رؤىً عمليَّةً حول كيفيَّة إمكانيَّة الوصول إليها.
كما كتب الباحثون في مجلَّة Neuropsychologia، مشيرين إلى استكشافهم لنظريتين حول كيفيَّة تحقّق حالة التدفق، فيما يلي:
- النَّظريَّة الأولى تعدُّ التدفق مجرَّد حالةٍ من التَّركيز الشَّديد التي تُقصِّي الأفكار العابرة وعوامل التَّشتيت الأُخرى، ممَّا يمهِّد الطَّريق لتحقيق أداءٍ متميزٍ في المهمَّة الرَّاهنة.
- أمَّا النَّظريَّة الثَّانية فتطرح فكرةً أكثر ديناميكيَّة: بأنَّ الأشخاص، من خلال سنواتٍ من التَّدريب المكثَّف، قد يطوِّرون شبكةً أو دائرةً عصبيَّةً متخصِّصةً قادرةً على إنتاج نوعٍ محدَّدٍ من التَّفكير بشكلٍ تلقائيٍّ، بجهدٍ واعٍ ضئيلٍ.
إذا كانت النَّظريَّة الثَّانية صحيحةً، كما يفترض الباحثون، فهذا يعني أنَّ أدمغة الأفراد الَّذين طوروا مستوىً معيناً من الخبرة في مجالٍ مبدعٍ قد تكون قادرةً على "إعادة توجيه نفسها" وبدء التدفق تلقائيَّاً، تقريباً عند الطَّلب؛ لاستكشاف والإبداع دون سيطرةٍ واعيةٍ.
يقول الباحث الرَّئيسيّ جون كونيوس: "لقد وصفها سيكسزنتميهالي بأنَّها حالةٌ ينغمس فيها الأشخاص في نشاطٍ بشكلٍ كاملٍ لدرجة أنّ لا شيء آخر يبدو مهمَّاً"، ويضيف: "إنِّها تجربةٌ ممتعةٌ للغاية لدرجة أنَّ النَّاس يستمرِّون في ممارستها حتَّى لو كلَّفهم ذلك الكثير، لمجرَّد الاستمرار فيها".
شملت التَّجربة في دريكسل تجنيد مجموعةٍ من عازفي الجيتار، بعضهم ذوي خبرةٍ عاليةٍ وبعضهم الآخر بخبرةٍ أقلّ، وتسجيل مخطَّط كهربيَّة الدِّماغ (EEGs) أثناء قيام كلٍّ منهم بالارتجال في ستِّ جلساتٍ، مع الطُّبول المبرمجة ومرافقة الجهير والبيانو.
شاهد أيضاً: استراتيجيات Jeff Bezos جيف بيزوس لزيادة التركيز والإنتاجية
بعد ذلك، تمَّ تقييم أدائهم من خلال طلبٍ من عازفي الجيتار تقييم مدى قوَّة شعورهم بالوصول إلى "حالة التدفق" أثناء العزف، وكذلك من خلال طلب من أربعة خبراءٍ في موسيقى الجاز الاستماع بشكلٍ مستقلٍّ إلى كلِّ جلسةٍ من الجلسات الإجماليَّة البالغ عددها 192 جلسة؛ لتقييمها من حيث الإبداع والخصائص الأُخرى.
وفي النِّهاية، توصل الباحثون إلى نتيجتين مثيرتين للاهتمام:
- أولاً، وصل الموسيقيون ذوو الخبرة العالية إلى حالة التدفق، بشكلٍ أكثر تكراراً وبشدَّةٍ أكبر، مقارنةً بزملائهم الأقلَّ خبرةً؛ ممَّا يدعم النَّظريَّة الثَّانية المذكورة أعلاه.
- ثانياً، وجدوا أن تخطيط كهربيَّة الدِّماغ (EEG) الذي يرسم خريطةً لنشاط الدّماغ للموسيقيين الَّذين استطاعوا تحقيق حالةٍ عاليةٍ من التَّدفُّق كان يتميَّز بزيادةٍ في نشاط الدِّماغ في النِّصف الأيسر من الكرة الأرضيَّة، في المناطق المرتبطة بـ"سماع الموسيقى وعزفها"، وانخفاض النَّشاط في القشرة الجبهيَّة العليا، المرتبطة بالتَّحكُّم التَّنفيذي.
ما أعجبني حقَّاً في هذا الجهد هو استعداد كونيوس لتقديم بعض التَّوصيَّات للأفراد المبدعين في أيِّ مجالٍ يسعون لزيادة فرص تحقيقهم لحالة التَّدفُّق، باختصار، يتلخَّص الأمر في بناء خبرةٍ عميقةٍ في المجال الإبداعيّ الذي تهتمُّ به، ثمَّ التَّدرُّب وتعلُّم كيفيَّة "تحييد السَّيطرة الواعية" بمجرَّد الوصول إلى هذا المستوى العالي من الخبرة.
وكما أكتب في كتابي الإلكترونيّ المجانيِّ، "علم الأعصاب: 13 طريقة لفهم وتدريب دماغك مدى الحياة"، لا يوجد شيءٌ يضاهي روعة الدِّماغ البشريِّ والطُّرق غير المتوقِّعة التي يمكنه العمل بها، وتأتي تقنيَّاتٌ لتحسين التَّركيز على رأس هذه القائمة.
أو كما قال عازف الجاز الشَّهير تشارلي باركر: "يجب عليك أولاً أن تتقنَ آلتك الموسيقيَّة، ثمَّ، تمرّن، وتمرّن، وتمرّن، وعندما تصعد أخيراً على خشبة المسرح، انسَ كلَّ ما تعلَّمته وفقط عبّر بحرِّيَّة".
لمزيدٍ من النصائح في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.