فن إدارة التوتر: استراتيجيات تعلّمتها من الفلسفة الرواقية
توفر الفلسفة الرواقية، بمبادئها العميقة حول التفكير العكسي، والحوار الذاتي البناء، والتأمل في الموت، إطاراً للعيش بسلام وإنتاجية في عالم اليوم المليء بالضغوط والتحديات
منذُ حواليّ عامٍ، وجدتُ نفسي غارقاً في بحرٍ من التَّحدِّيات والضُّغوط التي لا تنتهي، كان عالمُ العملِ المُتسارع مع إشعاراتِه المستمرِّة ومواعيدِه النِّهائيَّة الصَّارمة، يَضعُني دائماً في حالةٍ من القلقِ والتَّوتُّر، وكنت أشعر وكأنَّني أسبحُ ضدَّ تيارٍ لا يرحم، أحاولُ جاهداً الوصول إلى شاطئِ الأمان، لكن دون جدوى. وفي هذه اللَّحظات من اليأس، بدأت رحلة البحث عن طوقِ نجاةٍ يُعيدُ إليَّ التوازن والسَّلام الدَّاخليّ، وقادتني الأقدار إلى اكتشاف الفلسفة الرواقية، ذلك النّظامُ الفكريُّ العريقُ الَّذي يعود إلى اليونان القديمة، والذي يُقدِّم دروساً عميقةً حول كيفيَّة التَّعايش مع التَّحدِّيات بسلامٍ وهدوءٍ.
الغوص في الفلسفة الرواقية
كُلَّما غُصتُ أكثر في تعاليم الرواقية، وجدتُ نفسي مأخوذاً ببساطتِها وعُمقِها، وتعلَّمتُ أنَّ الرواقية ليست مجرَّد فلسفةٍ تأمليَّةٍ، بل هي منهجُ حياةٍ يعلِّمنا السَّيطرة على ردودِ أفعالنا تجاه ما يحدثُ حولنا، والرِّواقِيُّون يعتقدون أنَّنا لا نستطيع التَّحكُّم في الأحداث الخارجيَّة، لكن بإمكاننا التَّحكُّم في كيفيَّة استجابتنا لهذه الأحداث، وهذه الفكرة بسيطةٌ في جوهرها، لكنَّها تحملُ ثورةً في الوعي عند تطبيقها، وهذه بعضٌ من مبادئها التي ساعدتني في إدارة التوتر والسَّيطرة عليه:
التكيف مع التغيرات بمرونة
تعلَّمتُ أيضاً من الرواقية أهميَّة المرونة العقليَّة والقدرة على التَّكيُّف مع التَّغيُّرات، وفي بيئةِ العمل حيثُ يمكن أن تتغيَّرَ الأولويَّاتُ في لمح البصر، كان من الضَّروريّ تعلُّم كيفيَّة التَّكيُّف مع هذه التَّغيُّرات دون أن أفقدَ رباطةَ جأشي، والرواقية علَّمتني أن أنظرَ إلى التَّغيير ليس كعدوٍ، بل كفرصةٍ للنُّموّ والتَّطوُّر الشَّخصيّ.
العيش بوعي: اكتشاف القوة في اللحظة الحاضرة
واحدةٌ من النّقاط الأساسيَّة التي ركَّزت عليها الرواقية في تعاليمها هي أهميَّةُ العيش في اللَّحظة الحاضرة والتَّواجد بوعيٍّ فيها، في زمنٍ يسهُلُ فيه الانجراف نحو القلق بشأن المستقبل أو النَّدم على الماضي، وجدتُ في الرواقية دعوةً صادقةً لتقديرِ الآن؛ أي اللَّحظة الحاليَّة، والتَّركيز على ما يُمكن القيام به في هذه اللَّحظة، لقد تعلَّمتُ أنَّ السَّعادة والرّضا لا يأتيان من الخارج، بل ينبُعان من داخلنا، ومن قدرتنا على الاستمتاعِ باللَّحظة وإيجاد القيمة في التّجارب اليوميَّة.
زراعة الامتنان: تغيير النظرة إلى العالم
أدركتُ أنَّ اتّباع نهج الرواقية يعني أيضاً تعلُّم كيفيَّة زراعة الامتنان، بدلاً من التَّركيز على ما ينقُصُنا أو ما يمكن أن يكونَ أفضل، بدأتُ في ممارسة التَّقدير لما لديَّ بالفعل، وهذا التَّحوُّل في الإدراك لم يعمل فقط على تعزيز شعوري بالرِّضا والسَّعادة، بل جعلني أيضاً أكثر قدرةً على مواجهة التَّحدِّيات والصُّعوبات بروحٍ إيجابيَّةٍ، ووجدت أنَّ الشُّكر ليس فقط عن الأشياء الكبيرة في الحياة، بل يُمكن أن يكونَ عن الأشياء الصَّغيرة التي غالباً ما نأخذُها كأمرٍ مُسلَّمٍ به.
التَّحلي بالشجاعة والمرونة
علّمتني الرواقية أهميَّة التَّحلّي بالشَّجاعة والمرونة في مواجهة الصِّعاب، ففي حين أنَّ بعض الأحداث في حياتنا قد تكون خارج نطاق سيطرتنا، إلَّا أنَّ لدينا دائماً القدرة على اختيار كيفيَّة الاستجابة لها، وتعلَّمتُ أنَّ الشَّجاعةَ لا تعني غياب الخوف، بل هي القدرةُ على المضيّ قدماً على الرَّغم منه، كما أنَّ المرونة لا تعني فقط القدرة على التَّكيُّف مع التَّغيُّرات، بل أيضاً القدرة على النُّموّ والتَّطوُّر من خلال التَّجارب الصَّعبة.
التفكير العكسي
في رحلتي مع الفلسفة الرواقية، اكتشفتُ جوهرةً ثمينةً لم أتوقَّعها: التَّفكير العكسيُّ، وهي تقنيةٌ قد تبدو مثيرةً للقلق في البداية، إذ تدعوك لتخيُّل السّيناريوهات الأسوأ، ولكنَّها في الحقيقة تفتح الباب واسعاً أمام الشُّعور بالامتنان العميق، وفي العمل حيث الضُّغوط والتَّوقُّعات قد تُسيطر على تفكيرنا، بدأتُ أتخيَّل كيف يمكن أن تَسُوء الأمور، ثمَّ أجدُ لها حلولاً وأُدركُ أنَّها لن تكونَ نهاية المطاف.
لا أتَّبعُ هذه الطَّريقة لأغرق في اليأس، بل لأدركَ أنّني قادرٌ على حلِّ أيّ مشكلةٍ قد تواجهُنِي وتجاوزها، وعندما أعود للزَّمن الحاليّ أدركُ أنَّني في وضعٍ جيدٍ بالفعل، وأنَّني مستعدٌّ لأيّ طارئٍ، وهذا التَّمرين يجدِّد الامتنان للنَّجاحات الصَّغيرة، ويعزِّز الشَّجاعة لمواجهة التَّحدّيات، مع تقدير أعمق للفرص التي أملكُها.
شاهد أيضاً: يوم الصحة النفسية: التوازن بين العمل والحياة ضروري للأعمال
الحوار الذّاتيّ البنّاء
تعلَّمتُ أيضاً أهميَّة الحوار الذَّاتي البنَّاء، فالكلمات التي نقولها لأنفسنا لها قوَّةٌ لا يُستهان بها، وفي بيئة العمل حيث التَّقييم الذَّاتيُّ جزءٌ لا يتجزَّأ من التَّقدُّم، بدأت في توجيه كلمات تشجيعٍ لنفسي، خاصَّةً في مواجهة الصُّعوبات مثل: "أنا قادرٌ، أنا مُتكيّفٌ، أنا مستعدٌّ للتَّعلُّم من هذا التَّحدّي"، هذا النَّوع من الحوار الذَّاتيّ لا يُعزُّز الثّقة بالنَّفس فحسب، بل يفتح أيضاً الأبواب أمام حلولٍ إبداعيَّةٍ للمشكلات الصَّعبة.
ما بدأ كبحثٍ عن طريقةٍ لإدارة الضُّغوط وتحقيق السَّلام الدَّاخليّ تحوَّل إلى رحلةٍ مستمرّةٍ من التَّعلُّم والنُّموّ، والفلسفة الرواقية لم تُقدِّم لي مجموعةً من المبادئ والأدوات للتَّعامُل مع تحدّيات الحياة فحسب، بل فتحت أمامي أبواباً جديدةً للتَّفكير والتَّأمُّل في معنى السَّعادة، والرِّضا، والمعنى الحقيقيّ للحياة. وبينما أستمرُّ في هذه الرّحلة، أدركُ أكثر فأكثر أنَّ الرواقية ليست مجرَّد فلسفةٍ قديمةٍ، بل هي منارةٌ تُضيء طريقي في عالمٍ مليءٍ بالتَّحدّيات والفُرص.
في النّهاية، الرواقية ليست مجرَّد نظامٍ فكريٍّ أحاول اتِّباعه، بل هي نهجُ حياةٍ يوميٌّ يُذكّرني دائماً بقيمة اللَّحظة، وأهميَّة التَّركيز على ما هو ضمن سيطرتي، والسَّعي المستمرّ نحو النُّموّ الشَّخصيّ والرُّوحيّ.
لمزيدٍ من النصائح في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.