في اليوم العالمي للإذاعة: هل قضى البودكاست على زمن الراديو؟
تأثير البودكاست على صناعة الراديو وكيف يسعى الأخير للحفاظ على جمهوره وتجديد ذاته في عالم يسوده الإعلام الرقمي
"مثلما يُلقَّب المسرح بـ "أبو الفنون"، فالراديو هو المتعة في العمل الإعلامي، الراديو هو الكلام في أذن كلِّ مستمع، الراديو هو قربك لكل من يسمعك، الراديو هو مساحة الخيال التي تخلقها بينك وبين هذا الآخر". سنعود إلى تلك الكلمات مرةً أخرى، ولكن أولاً... Happy Radio Day.
فاليوم هو يوم الإذاعة العالمي، الذي أعلنته "اليونسكو" واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2011، احتفاءً باليوم الذي بدأ فيه بث أول إذاعةٍ للأمم المتحدة عام 1946، وكان يوم 13 فبراير.
مخترع الراديو
غير محدد! وهو ليس الإيطالي "غولييلمو ماركوني" وحده -كما هو شائع- إذ بدأ تجاربه اللاسلكية عام 1894، بعد محاولاتٍ وأفكارٍ ونظرياتٍ عديدة سبقها إليه العديد من المخترعين من مختلف الجنسيات، غير أن "ماركوني" يُعَد أشهرهم، وقد أتت إسهامات من سبقوه على النحو التالي:
- عام 1864 قدم الاسكتلندي "جيمس كليرك ماكسويل" نظريات تتنبأ بوجود موجات كهرومغناطيسية.
- وفي 1887 أجرى الألماني "هاينريش هيرتز" تجارب لإثبات صحة نظريات ماكسويل، لذا سميت الوحدة الأساسية لتردد الموجات الكهرومغناطيسية بالهرتز.
- في تسعينيات نفس القرن، اخترع الفرنسي "إدوارد برانلي" كاشف إشارة يسمى "المتماسك"، بعده قام الفيزيائي الإنجليزي "أوليفر لودج" بالعمل على مبدأ ضبط الرنين، كذلك طوّر الروسي "ألكسندر بوبوف" هوائي استقبال. [1]
في يوم الإذاعة العالمي لن يكون هذا المقال عرضاً تاريخيا لنشأتها، أو لمراحل تطور الراديو، فغالبية محبي الراديو، لن يولوا هذا الجانب اهتماماً كبيراً، بما يحمله من طابع "الأغراض البحثية"، لذا، سنعرض في هذا المقال لفكرتين أساسيتين:
- الأولى، هل يمكن للبودكاست أن يحل محل الراديو؟
- الثانية، إلى أي مدى أفاد دخول المشاهير –بما فيهم المؤثرون Influencers- مجال التقديم الإذاعي.
هل يمكن للبودكاست أن يحل محل الراديو
تساؤلٌ مثارٌ منذ فترةٍ طويلة في أعقاب ظهور البودكاست، الذي يحقق الآن رواجاً كبيراً في أمريكا، ورواجاً آخذاً في التصاعد في دول الخليج. وفي تصوري أن الإجابة بدقةٍ على هذا التساؤل مرتبطةٌ إلى حدٍ كبير بمدى إتاحة البودكاست بنفس الدرجة والصورة التي يتاح بها "الراديو" أو لا، عادات الاستماع لدى الجماهير وهل تغيّرت أم لا زالت على حالها، تقييم دور التفاعلية والمشاركة في البودكاست مقابل البث الإذاعي التقليدي، والنظر في التّحديات التي تواجه البودكاست في سعيه ليحلّ محلّ الراديو.
فلنبدأ بالإتاحة، وللإتاحة شرطان، التكلفة متمثلة بالمقابل المادي والجهاز والزمن. أما على صعيد التكلفة فحالياً، الراديو متاح بشكلٍ أوسع وأسهل لكل فئات الجمهور، من أول الطفل الذي يسمع الراديو وهو ذاهبٌ إلى المدرسة، مروراً بربة المنزل التي تستمع إلى الراديو في مطبخها، وانتهاءً إلى غيرهم من فئات يتابعون الراديو في كل وقت وفي أي مكان، فضلاً عن كونه مجانياً وكل ما يحتاجه جهاز راديو رخيص، بخلاف البودكاست الذي يحتاج إلى "إنترنت" والذي يعد في كل الأحوال "تكلفة" متمثّلة في باقات الإنترنت أياً كانت تكلفته التي تختلف من بلدٍ لآخر بطبيعة الحال، لكنها في النهاية تعتبر "تكلفة"، وجهاز إلكتروني من المؤكّد أنّه أغلى من الراديو. أما مستقبلاً، فهو ما لا يمكن توقّعه. [4]
أما من ناحية الإتاحة الزمنية حسب الطلب والرغبة، فالبودكاستات تنافس الإذاعة التقليدية بقوة وتتفوّق عليها، لأنّها تقدّم بديلاً يتسم بالمرونة والشخصية. لتستمع إلى ما تريد وقتما تريد. بينما كنت في السابق محكوماً باختيارات الإذاعة وجودة الاستقبال. هذا التحوّل يقودنا إلى النقطة التالية وهي التغيير الجوهري في نمط استهلاك المحتوى الإعلامي، خاصة لدى الأجيال الجديدة التي تبحث عن محتوى يمكن استهلاكه وفق رغباتهم وفي أي زمان ومكان ولم تعد ترضى بالخيارات القليلة التي يتيحها الراديو وبدل أن يفكّروا في الحبيب وينتظروا أغنية من الراديو تحمل رسالةً من القدر أصبحوا يستمعون إلى بودكاست يتكلّم عن الـ "red flags" في العلاقات.
هذا من جهة "المستمع"، أما من جهة الصناعة نفسها، فهناك فروقٌ جوهرية رغم أوجه التشابه بين الراديو والبودكاست، والتي برغم وجودها لا تجعلهما متماثلين أو متطابقين، منها أن لدى محطة الراديو وقتاً محدداً لبث برامجها الحوارية والأخبار والموسيقى، وفق إيقاعٍ محدد ومنضبط يختلف من مادةٍ إلى أخرى حسب طبيعتها، والتي تصل إلى قاعدةٍ جماهيريةٍ كبيرةٍ وواسعة، بينما يركز البودكاست على نوعية متخصصة من المواضيع التي تنتقي الجماهير المستهدفة، ويتحرر في ذات الوقت من قيدي التوقيت والإيقاع المفروضين على محطات الراديو. [2]
البودكاستات، بفضل هذه التطورات، تتيح تنوعاً هائلاً في الموضوعات التي تغطيها، ملبية بذلك اهتمامات متنوعة ومختلفة للجمهور، وتقدم فرصة ذهبية للتركيز على محتوى مخصص لجماعات مستهدفةً بعينها. هذه الميزة تجعل من البودكاست وسيلة فعالة لخلق تجارب استماع متخصصة تفتقر إليها الإذاعات التقليدية، التي قد تركز أكثر على البرامج ذات الطابع العام.
على الجانب الآخر، تبرز البودكاستات بمستوىً تفاعلي ومشاركة عالي، مما يعزز الرابط بين المستمعين والمحتوى ويشجع على إقامة حوار بين الطرفين، في مقابل البث الإذاعي التقليدي الذي قد يقتصر التفاعل فيه على الاتصالات الهاتفية أو المسابقات.
ومع ذلك، تواجه البودكاستات تحديات قد تعيق مسيرتها نحو الاستبدال التام للراديو، بما في ذلك مسائل التنظيم والحفاظ على مستوى الجودة والتحديات الاقتصادية. تتطلب البودكاستات استراتيجيات تسويقية مدروسة لضمان وصولها إلى الجمهور المستهدف وإشراكه بشكل فعال، بالإضافة إلى التغلب على الصعوبات المالية والإنتاجية. [3]
على الرغم من هذه التحديات، يظل مستقبل البودكاست مبشّراً بالنمو والتطور، مدعوماً بتغير تفضيلات المستهلكين والابتكارات التكنولوجية التي تفتح المجال أمام الإبداع في مجال الإعلام الصوتي. يبقى السؤال المطروح: هل ستنجح البودكاستات في النهاية بتحدي الإذاعة التقليدية واستبدالها بالكامل، أم أن كلا النمطين سيجد طريقه للتعايش، كل في مجاله، لتلبية رغبات واحتياجات جمهوره المتنوع؟
دخول المشاهير والمؤثرين مجال التقديم الإذاعي.. نقطة لصالح الراديو
لماذا تركنا هذه النقطة خارج نطاق المقارنة في المحور السابق؟ لنشير إلى أنّنا مهما عدّدنا نقاطاً للمقارنة، فهناك عامل المفاجأة الذي لا يمكن توقّعه اليوم ليجيب عن كيف سيكون المستقبل. فمن كان يتخيّل من قبل أنّ مستمع الراديو يمكنه أن يرى المذيع أو المذيعة في نفس وقت البث الإذاعي، أو أنّ لديه ميزة الاستماع لإعادة أحد البرامج، أو المسلسلات الإذاعية على يوتيوب!
جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتقلب الطاولة، فعلى الرغم من تفوق البودكاست تنوّعاً وتقنيةـ إلا أنّ المؤثرين غيّروا المعادلة. فالمحطات "التجارية" أو الراديو التجاري، القائم بشكلٍ أساسي على "الإعلانات"، وهو الأكثر انتشاراً وجماهيرية بين المحطات، تحرص على أن تتضمن قائمة مقدمي برامجها المشاهير، والمؤثرين مؤخراً، رغبةً في جذب أكبر عددٍ ممكنٍ من المستمعين لتوسعة القاعدة الجماهيرية لها بما يخدم استراتيجيتها الإعلانية والتسويقية، وجاء ذلك في أحيانٍ كثيرة على حساب جودة مقدم البرامج الإذاعية، وما يقدّمه من محتوى، فليس كل "Influencer" يملك مقومات وإمكانيات مذيع الراديو، وأتحدث هنا عن مجرد الإمكانيات لا "الموهبة" التي لا قد تتوفر من الأساس في بعض الأحيان، لكنّها كفيلة بأن تجذب الجماهير وهو هدف المحطات من البداية.
عودةُ إلى الكلمات في مستهلّ المقال، فهي للإعلامية والإذاعية "عايدة سعودي"، رئيسة محطة NRJ في مصر، "مثلما يُلقَّب المسرح بـ "أبو الفنون"، فالراديو هو المتعة في العمل الإعلامي، الراديو هو الكلام في أذن كلِّ مستمع، الراديو هو قربك لكل من يسمعك، الراديو هو مساحة الخيال التي تخلقها بينك وبين هذا الآخر"، التي جاءت في سياق افتتاحية دورةٍ أكاديمية لإعداد "مذيع الراديو"، وهي كلماتٌ تكشف عن مدى أهمية إمكانيات ومؤهلات مذيع الراديو، التي يمكن تعداد الكثير منها، ويمكن اختصارها بـ "أوبرا وينفري" التي كانت مقدمة برامج إذاعية في الأساس.
إجابةً على سؤالنا: هل يمكن للبودكاست أن يتفوّق على الراديو، نعم يمكن. لكن هل سيلغيه بالكامل؟ وحده سلوكك كمستخدم والمستقبل سيجيباننا على ذلك.