قليلاتٌ عدداً، لكنهن أقوى أداءً: النساء كمستثمرات
غياب تمثيل النّساء في الأسواق الماليّة ليس هوّةً جنسيّةً فقط، بل فرصةٌ اقتصاديّةٌ مهملةٌ، ومع التّحدّيات العالميّة الرّاهنة، لم يكن السّعي لردم هٰذه الفجوة ألحّ ممّا هو اليوم

تعاني النّساء في الأسواق الماليّة من تفاوتٍ شاسعٍ في الأعداد مقارنةً بالرّجال؛ غير أنّ دراسةً موثوقاً بها أظهرت تفوّقهنّ على الرّجال في الأداء الاستثماريّ، بمعدّلٍ يبلغ 1.8٪ سنويّاً في المتوسّط.
يعزى هٰذا الفارق في الأداء إلى عوامل عدّةٍ، في مقدّمتها القدرة الفطريّة للنّساء على المثابرة، والالتزام بآفاقٍ زمنيّةٍ بعيدة المدى، وتبنّي استثماراتٍ مبنيّةٍ على الأهداف. فإن كانت النّساء، كما تشير أبحاثٌ أخرى، أكفأ طبعاً في الاستثمار، فما العوامل الّتي تحدّ من مشاركتهنّ في الأسواق الماليّة؟
أبسط إجابةٍ: أنّ أكثر النّساء لم يكنّ مدركاتٍ لقدراتهنّ الاستثماريّة؛ لأنّهنّ لم يجرّبن، أو حيل بينهنّ وبين الفرصة. أمّا من حبّب إليهنّ قدرٌ من الوكالة الماليّة، فقد حصرن استثماراتهنّ في خياراتٍ منخفضة المخاطرة؛ مثل حسابات التّوفير، والإيداعات الثّابتة، والمعاشات. وحسب علم النّفس الماليّ، فإنّ نفور النّساء العميق من المخاطرة، وهو نتاج أدوارٍ جنسيّةٍ تقليديّةٍ في الأسر والزّيجات، يعدّ سبباً رئيساً في تردّدهنّ عن الاستثمار في أصولٍ أعلى عائداً؛ كالأسهم.
في السّنين الأخيرة، ولا سيّما بعد اندلاع جائحة "كوفيد‑19"، وما اصطحبه ذٰلك من انفجار المنصّات التّعلّميّة الذّاتيّة والفيديوهات التّوعويّة، تغيّرت نظرة النّساء إلى مفهومي المخاطرة والعائد تغيّراً جذريّاً. وقد أظهر استطلاعٌ معنيٌّ بمنطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا أنّ 62% من النّساء يتطلّعن لتكون لهنّ دورٌ أكثر فاعليّةً في الاستثمار. واليوم، وفق ما هو متاحٌ من قنواتٍ مدرّةٍ للدّخل كالسّندات والصّناديق المتداولة في البورصة، فلا مبرر لأن تحجم النّساء عن إطلاق المستثمرة الكامنة فيهنّ.
تحويل القدرات إلى نتائجٍ
إطلاق طاقات النّساء يتطلّب أوّلاً مواجهة الحواجز؛ سواءٌ أكانت تحيّزاتٍ جنسيّةً لا واعيةً في المنازل، أم قيوداً تفرضنها على أنفسهنّ. وعلى من يتبوّأون مواقع السّلطة واجبٌ ملحٌّ اليوم: تعزيز المساواة الجنسيّة في جميع مناحي الحياة، والتّوعية بمنافع زيادة مشاركة النّساء في الاستثمار، وتسليط الضّوء على الفرص الّتي تضيع حين تركن الأموال في قنواتٍ ضعيفة العائد كحسابات التّوفير.
ولقد كشفت جائحة "كوفيد‑19" عن حاجةٍ ماسّةٍ لأن يتحاور الرّجال والنّساء حول القضايا الماليّة بصراحةٍ وشفافيّةٍ؛ فحسب دراسةٍ عالميّةٍ، فإنّ 49% من النّساء يتحدّثن عن الإرث مع أسرهنّ. ويكتسي هٰذا الرّقم أهمّيّةً كبرى؛ لأنّ النّساء غالب الوقت يعشن أطول من الرّجال، فإذا لم يكنّ ضليعاتٍ بالشّؤون الماليّة عندما تخفت قدرتهنّ على الكسب والاستثمار، واجهن عثراتٍ جسيمةً. إنّ المشاركة المبكّرة في التّخطيط للتّقاعد والإرث تيسّر للنّساء تنويع استثماراتهنّ بين أدوات الدّخل الثّابت والمتغيّر ومنتجات التّأمين، ممّا يحقّق لهنّ عوائد معدّلةً للمخاطرة طوال حياتهنّ، ويخلّف لهنّ إرثاً ماليّاً دائماً.
ثمّ صلةٌ محكمةٌ بين الأمومة والتّخطيط الماليّ؛ فحمل المرأة وتربيتها لأطفالها يؤثّران في مسيرتها المهنيّة وقدرتها على الكسب، وهو ما يفرض حاجةً إلى شبكة أمانٍ ماليّةٍ مسبقاً. ويرى الباحثون أنّ الأطفال يرثون عاداتهم الماليّة من أمّهاتهم؛ بناءً عليه، يكون تعزيز المعرفة الماليّة للمرأة حافزاً مضاعفاً لغرس عاداتٍ قيّمةٍ في الأجيال القادمة.
مساندة المستثمرات باستشارةٍ ماليّةٍ رصينةٍ
إنّ أحد أعتى التّحدّيات الّتي تواجه المستثمرات هو العثور على مستشارين ماليّين يفهمون أهدافهنّ. فقد بيّنت دراسةٌ أنّ 67% من النّساء شعرن بأنّ مديري ثرواتهنّ لم يستوعبوا مقاصدهنّ، ممّا حملهنّ غالباً على تغيير المستشار، وهو ما يعطّل خططهنّ طويلة الأمد، ويزعزع الثّقة الاستثماريّة.
هٰذا مقلقٌ بوجهٍ خاصٍّ في ظلّ رسومٍ جمركيّةٍ مرتفعةٍ وتوتّراتٍ جيوسياسيّةٍ وتقلّباتٍ متزايدةٍ في الأسواق العالميّة؛ ففي هٰذا المناخ يحتاج المستثمرون إلى إرشادٍ ثابتٍ ورؤيةٍ متّزنةٍ. والنّساء، على وجهٍ أخصّ، يُعلين من الاستقرار طويل الأجل، والاستراتيجيّات الشّخصيّة، والاستثمار المستدام، وهو ما يتّسق مع إدارة التّقلّبات بحكمةٍ.
ولا تبغي النّساء مستشاراً فقط، بل مستشاراً يصغي؛ فهنّ يعلينّ قيمة الصّدق والشّفافيّة والمعرفة الماليّة العميقة أكثر من الرّجال. هٰذه الفترة إذاً فرصةٌ ذهبيّةٌ للمستشارين والشّركات لبناء علاقاتٍ مبنيّةٍ على الثّقة تلبّي احتياجات النّساء وأهدافهنّ.
وللصّانعين السّياسيّين دورٌ محوريٌّ؛ فتعظيم مشاركة النّساء في الأسواق الماليّة قادرٌ، وفق الدّراسات، على زيادة النّاتج المحلّيّ الإجماليّ العالميّ بـ26%، وإطلاق 160 ترليون دولارٍ من الثّروة البشريّة. وفي وقتٍ تتأثّر فيه سلاسل الإمداد والنّظم الاقتصاديّة بالتّغييرات الجمركيّة، لا يسع العالم إهدار هٰذه الإمكانات.
وما زالت البراهين تكشف: 71% من المستثمرات يراعين الاستدامة في قراراتهنّ الماليّة، مقابل 58% من الرّجال؛ وهو ما يضعهنّ في مقدّمة الاستثمار ذي الأثر البعيد.
غياب تمثيل النّساء في الأسواق الماليّة ليس هوّةً جنسيّةً فقط، بل فرصةٌ اقتصاديّةٌ مهملةٌ، ومع التّحدّيات العالميّة الرّاهنة، لم يكن السّعي لردم هٰذه الفجوة ألحّ ممّا هو اليوم.
تكرار التّحدّي وتوضيح الفرصة
إنّ أحد التّحدّيات المتكرّرة أمام المستثمرات هو العثور على مستشارين يفهمون غاياتهنّ. فقد خلصت دراسةٌ إلى أنّ 67% من النّساء يرين أنّ مديري ثرواتهنّ لا يفهمون أهدافهنّ وفق المرجوّ؛ فيلجئهنّ ذٰلك إلى تغيير المستشار، وهو ما يعطّل الاستراتيجيّات طويلة الأمد.
في المقابل، تُعلي النّساء من قيمة الإرشاد المهنيّ الرّصين أكثر من الرّجال؛ إذ يفضّلن الصّدق، والشّفافيّة، والمعرفة العميقة. وهٰذا يمثّل فرصةً ثمينةً للمستشارين لبناء علاقاتٍ لمدًى بعيدٍ باستراتيجيّاتٍ مفصّلةٍ تتّسق مع طموح النّساء.
ولا ينبغي أن نهمل المسؤوليّة الّتي تقع على عاتق المنظّمات الحكوميّة وصانعي السّياسات؛ فتعزيز التّنوّع الجنسيّ يستطيع زيادة النّاتج المحلّيّ الإجماليّ العالميّ بـ26%، وإيجاد 160 ترليون دولارٍ من الثّروة البشريّة. كما أنّ 71% من المستثمرات يضعن الاستدامة في الحسبان، مقابل 58% من الرّجال، وهو ما يقدّم دوافع اجتماعيّةً واقتصاديّةً وبيئيّةً ملحّةً لتعزيز حضور النّساء في الأسواق الماليّة.
بعبارةٍ أخرى، لماذا تبقى النّساء مغيباتٍ عن مجالٍ يحمل فرصاً بقيمة ترليونات الدّولارات؟ حان وقت الأجوبة والأفعال.
عن المؤلّفة
تتولّى سميت غل منصب نائبة الرئيس للاستثمارات في "مجموعة كونتننتال" (The Continental Group)، وهي من الكيانات الرائدة في وساطة التأمين وتقديم الحلول الماليّة في دول مجلس التعاون الخليجي.
ومن رصيدٍ مهنيّ يفوق 23 عاماً في مضمار إدارة الثروة، تنوّعت خبراتها بين تطوير المنتجات وقيادة فرق المبيعات، لتغدو مرجعاً يُحتذى، وصاحبة رؤى نافذة تستشرف ما وراء الأفق. وشعارها الذي تسير على خُطاه:
«كُنْ مرِناً، واجعلِ التعلُّمَ المتواصلَ نهجاً لك.»
وهي كذلك عضوٌ مُعتمد في "معهد الأوراق الماليّة والاستثمار" (Chartered Institute for Securities and Investment - CISI) في المملكة المتّحدة، بصفتها خبيرةً دوليّةً في مجال الثروة، ممّا يُرسّخ مكانتها كإحدى القامات الفكريّة البارزة في هذا الميدان.