التوتر كحافز للنمو: كيف قد يعرقلنا السعي الدائم؟
يمكن للتّوتّر، رغم سمعته السّيّئة، أن يكون أداةً فعّالةً نحو تحقيق النّجاح، شرط التّعامل معه بالجرعة المناسبة وفترات الرّاحة الكافية
قد ينظر البعض إلى التّوتّر كعدوٍّ، لكن الدّراسات تكشف أنّه قد يكون بوّابةً للتّطوّر ودافعاً للإنجاز، إذا عرفنا كيف نستخدمه بحكمةٍ. إذ إنّ التّوتّر، رغم سمعته السّيّئة، يمكنه أن يكون أداةً فعّالةً نحو تحقيق النّجاح، شرط التّعامل معه بالجرعة المناسبة وفترات الرّاحة الكافية. فكيف يمكننا تحقيق هذا التّوازن؟ هذا ما سنتناوله بالتّفصيل.
يحكي د. إريك كوريم، الّذي شغل مناصب رياضيّةً مرموقةً على مدى 16 عاماً، تجربته كمدرّبٍ في دوري كرة القدم الأمريكيّ حيث كان يتطلّب العمل جهداً شاقّاً على مدار الأسبوع. إذ كان هناك اعتقادٌ سائدٌ بأنّ العمل المتواصل هو سرّ التّفوّق؛ لذا اعتبر الجميع أنّ العمل المستمرّ دون راحةٍ وسام شرفٍ، ولكنّه وسامٌ جاء بتكلفةٍ باهظةٍ. ومع انتهاء الموسم، كان الجميع منهكين، بعيدين عن لياقتهم البدنيّة، يفتقرون للطّاقة، ويتوقون ليومٍ من الرّاحة.
وبعد سنواتٍ من الخبرة، اكتشف كوريم أنّ العمل بلا توقّفٍ أدّى إلى نتائج عكسيّةٍ؛ فقد أدرك أنّ الضّغط المستمرّ يستنزف الرّوح والجسد معاً، ويقلّل من التّركيز والقدرة على الأداء في اللّحظات الّتي تتطلّب طاقةً استثنائيّةً. حين يتعرّض الجسم لضغوطٍ مستمرّةٍ، فإنّه يبدأ بالتّراجع، وهنا تكمن المفارقة الّتي نراها بين "التّوتّر المفيد" والتّوتّر المرهق الّذي لا يفضي إلّا إلى الإرهاق. فالتّوتّر، بحسب كوريم، ليس عدوّاً، بل هو أداة تطويرٍ وقوّةٌ دافعةٌ، ولكنّه يعتمد على الاستخدام السّليم؛ حيث يصبح مفيداً حين يستخدم للضّغط المدروس، ويضرّ حين يصبح عبئاً دائماً لا يخفّف عنه.
التّوتّر المتعمّد: طريقٌ نحو الأداء الأمثل
تتلخّص فلسفة كوريم حول التّوتّر في ضرورة تحقيق التّوازن بينه وبين الرّاحة. ففي مجال التّدريب الرّياضيّ، لا يمكن تطوير الجسم إلّا من خلال تعريضه لمراحل تدريجيّةٍ من الضّغط، سواءً بزيادة الأوزان أو رفع مستوى التّحمّل. ومثلما يمكن صقل اللّياقة البدنيّة، ينطبق الأمر كذلك على حياتنا العمليّة؛ إذ يحتاج كلٌّ منّا إلى تحدّياتٍ وضغوطاتٍ لتحفيز النّموّ والتّطوّر الذّاتيّ.
ولتفسير هذا المفهوم، يشير كوريم إلى الطّبيب المجريّ هانز سيلي، الّذي يعرف بدراساته حول مفهوم "التّوتّر". حيث يرى سيلي أنّ التّوتّر بذاته ليس ما يقتلنا، بل استجابتنا له هي الّتي تصنع الفرق. ووفقاً لهذه النّظريّة، فإنّ الجرعة المناسبة من الضّغط المقترنة بجرعةٍ معتدلةٍ من الرّاحة هي الّتي تمكّن الجسم والعقل من التّكيّف بشكلٍ إيجابيٍّ. وبدون هذه الاستراحة، يغرق الإنسان في حالةٍ من الإجهاد المستمرّ، والّتي تؤدّي إلى تدهور صحّته الجسديّة والنّفسيّة.
بالإضافة إلى ذلك، تؤكّد الدّراسات الحديثة أهمّيّة الاستراحة الدّوريّة للصّحّة العامّة والأداء المهنيّ. وفي دراسةٍ أجرتها منظّمة الصّحّة العالميّة ومنظّمة العمل الدّوليّة، باستخدام بياناتٍ ضخمةٍ شملت ملايين الأشخاص، أشارت إلى أنّ العمل لساعاتٍ طويلةٍ، تتجاوز 55 ساعةً أسبوعيّاً، يعرّض الصّحّة لخطرٍ جسيمٍ؛ حيث يرتبط ذلك بأمراض القلب والسّكتة الدّماغيّة.
كما تظهر الإحصاءات أنّ العمل المكثف أسهم في وفاة نحو 745 ألف شخصٍ في عام 2016 وحده، وأنّه تسبّب بفقدان ملايين السّنوات من الأعمار الإنتاجيّة نتيجة أمراضٍ مزمنةٍ مرتبطةٍ بالعمل المستمرّ. هذه الأرقام تبرز حقيقةً مرعبةً حول ما يمكن أن يسبّبه الإجهاد المزمن من أضرارٍ صحّيّةٍ لا يمكن تجاهلها.
ولكي نتجنّب آثار الإجهاد المفرط، ينصح كوريم بتخصيص يومٍ أسبوعيٍّ للراحة التّامّة. هذا اليوم ليس مجرّد كسرٍ لروتين العمل، بل هو فرصةٌ لإعادة الشّحن والتّفكير بعيداً عن المهامّ اليوميّة. كما ينصح كوريم بإطفاء الهاتف، والابتعاد عن وسائل التّواصل الاجتماعيّ، والانفصال عن جميع ما يربطنا بالعمل، ليصبح هذا اليوم ملاذاً من كلّ أنواع الضّغوطات.
إذ يمكن استغلال هذا اليوم في الاسترخاء، والتّأمّل، والتّواصل مع العائلة والأصدقاء، ممّا يساعد على تجديد النّشاط واستعادة الطّاقة اللازمة لتحقيق أداءٍ أفضل. وبهذه الطّريقة، يصبح التّوتّر أداةً إيجابيّةً لتعزيز الأداء، حين يتمّ توازنه بفتراتٍ من الرّاحة. لأن إدارة التّوتّر وتحديد وقتٍ خاصٍّ للاسترخاء يعيدان لنا إحساسنا بالتّوازن، ويتيحان لنا إطلاق العنان لقدراتنا الكامنة.
ختاماً، رحلة العمل النّاجح تحتاج إلى محطّاتٍ من الرّاحة؛ فليس مدعاةً للفخر أن نستنزف أنفسنا، بل الشّرف أن نعرف كيف نتعامل مع التّوتّر بحكمةٍ، ونخصّص لأنفسنا وقتاً للراحة كي نحقّق أفضل ما لدينا، باستمتاعٍ ورضا.