كيف يمكن للتّعاطف التّكتيكي أن يغيّر مسار المفاوضات؟
دروس من المفاوض المخضرم، كريس فوس، في كتابه "Never Split the Difference"
هناك لحظاتٌ قد تكونُ فيها القدرةُ على قراءةِ مشاعرِ الآخرين وتفسيرِها بشكلٍ صحيحٍ هي الفارقُ بين النّجاحِ والفشلِ. عندما تفكّرُ في التفاوضِ، قد تتصورُ مشهداً يعجُّ بالتوترِ والمنافسةِ، حيث يسعى كلُّ طرفٍ لتحقيقِ أكبر قدرٍ من المكاسبِ. ولكن كريس فوس، المفاوضُ المخضرمُ الذي قاد العديد من المفاوضاتِ النّاجحةِ مع الخاطفين والإرهابيّين خلال عملهِ في مكتبِ التحقيقاتِ الفيدرالي (FBI)، يعتقدُ أنّ القوة الحقيقية في التّفاوضِ لا تكمنُ في فرضِ السّيطرةِ، بل في القدرةِ على التّعاطفِ وفهمِ مشاعرِ الطّرفِ الآخرِ.
في كتابهِ "Never Split the Difference"، يقدّمُ فوس رؤيةً جديدةً للتّفاوضِ، تعتمدُ على ما يسميهِ "التّعاطف التكتيكي"، وهي استراتيجيةٌ تساعدُك على التّعمّقِ في مشاعرِ الطّرفِ الآخرِ وتحويلِ تلك المشاعرِ إلى مفاتيح لتحقيقِ أهدافِك. فوس ليس مجرّد خبيرٍ نظريٍّ، بل هو رجلٌ اختبر هذهِ الأدوات في أصعبِ الظّروفِ الممكنةِ، حيث كانت حياةُ النّاسِ على المحكِّ.
لماذا يعدُّ التعاطفُ التكتيكيُّ أساسياً في التفاوضِ؟
عندما نسمعُ كلمة "تعاطفٍ"، قد يخطرُ ببالنا صورةٌ للعاطفةِ والرّقةِ. لكن في عالمِ المفاوضاتِ، التّعاطفُ لا يعني الضّعفِ، بل هو أداةٌ قويّةٌ لفهمِ دوافعِ الطّرفِ الآخرِ. يشرحُ فوس في كتابهِ أنّ التّعاطف التكتيكيّ يتجاوزُ مجرد الشّعورِ بالآخرِ، ليصل إلى القدرةِ على رؤيةِ العالمِ من منظورِهم، وفهمِ دوافعِهم العميقةِ، ومن ثمّ استخدامِ هذهِ المعرفةِ لتوجيهِ المفاوضاتِ نحو الحلولِ الّتي تحقّقُ أهدافك.
مثالٌ تطبيقيٌّ:
قد تجدُ نفسك في اجتماعٍ مع مديرِك تطلبُ زيادةً في راتبِك. بدلاً من أن تبدأ بعرضِ الأسبابِ التي تجعلك تستحقُّ الزيادة، يمكنك أن تبدأ بمحاولةِ فهمِ الضغوطِ التي يواجهُها مديرُك. ماذا لو قلت: "أعلمُ أن الشركة تمرُّ بتحدّياتٍ كبيرةٍ، وأنّ الميزانية قد تكونُ محدودةً". هذه العبارةُ البسيطةُ تُظهرُ أنّك تفهمُ موقف مديرِك، وتجعلهُ أكثر استعداداً للاستماعِ إلى وجهةِ نظرِك.
تقنيةُ التصنيفِ: كيف تساعدُ في تهدئةِ المواقفِ؟
من الأدواتِ التي يقدّمُها فوس في كتابهِ تقنيةُ "التّصنيفِ"، والتي تعتمدُ على تسميةِ المشاعرِ التي يعبّرُ عنها الطرفُ الآخرُ. التّصنيفُ ليس مجرد وسيلةٍ للتعبيرِ عن التّعاطفِ، بل هو طريقةٌ فعالةٌ لتهدئةِ المواقفِ المتوترةِ. عندما تقولُ لشخصٍ غاضبٍ: "يبدو أنك تشعرُ بالإحباطِ"، فإنّك تساعدُه على الشعورِ بأنّهُ مسموعٌ ومفهومٌ.
يشرحُ فوس في الكتابِ كيف استخدم هذهِ التّقنية في مواقف تفاوضيةٍ معقّدةٍ، قائلاً: "عندما تُظهرُ للطّرفِ الآخرِ أنّك تفهمُ مشاعره، فإنّك تُفتحُ الباب أمام حوارٍ حقيقيٍّ. هذا الحوارُ يمكنُ أن يكون نقطة التّحولِ التي تأخذُ المفاوضاتِ من مأزقٍ إلى نجاحٍ".
الاستماعُ الفعّالُ: كيف تستفيدُ منهُ في تحقيقِ نتائج أفضل؟
الاستماعُ لا يعني الصّمتِ أثناء حديثِ الآخرِ. الاستماعُ الفعّالُ هو القدرةُ على التقاطِ الإشاراتِ الخفيةِ في كلماتِ الطرفِ الآخرِ وتفسيرِها بطريقةٍ تساعدُك على بناءِ استراتيجيتِك التفاوضيةِ. عندما تستمعُ بعمقٍ، فإنك تجمعُ معلوماتٍ قد لا تكونُ متاحةً لك لو كنت تركزُ فقط على التحضيرِ لردِّك.
يشيرُ فوس إلى أنّ "التفاوض ليس مجرد كلامٍ، بل هو استماعٌ وتحليلٌ. عندما تستمعُ بفعاليةٍ، فإنّك تحصلُ على مفاتيح لفهمِ الاحتياجاتِ الحقيقيةِ للطرفِ الآخرِ، مما يجعلك قادراً على تقديمِ حلولٍ ترضي الجميع."
تحويلُ المشاعرِ إلى حلولٍ: كيف تجعلُ الطرف الآخر جزءاً من الحلِّ؟
بعد أن تتمكن من فهمِ مشاعرِ الطرفِ الآخرِ وتصنيفِها، يأتي دورُ تحويلِ هذهِ المشاعرِ إلى حلولٍ عمليةٍ. هنا يظهرُ دورُ الأسئلةِ المفتوحةِ التي تساعدُ في خلقِ بيئةٍ من التعاونِ. أسئلةٌ مثل: "ما هي الحلولُ التي تراها مناسبةً لتحقيقِ أهدافِنا المشتركةِ؟" يمكنُ أن تحول الحوار من صراعٍ إلى تعاونٍ.
فوس يقولُ: "السّؤالُ الصحيحُ في الوقتِ الصّحيحِ يمكنُ أن يفتح آفاقاً جديدةً للحوارِ. عندما يشعرُ الطّرفُ الآخرُ بأنّهُ جزءٌ من الحلِّ، يصبحُ أكثر استعداداً للمشاركةِ في الوصولِ إلى اتفاقٍ مشتركٍ".
ما يقدّمهُ كريس فوس في كتابهِ "Never Split the Difference" ليس مجرد نصائحٍ للتّفاوضِ، بل هو فلسفةٌ تركّزُ على فهمِ النّفسِ البشريةِ واستخدامِ هذا الفهمِ للوصولِ إلى أفضلِ النتائجِ. التّعاطفُ التكتيكيُّ هو القوةُ التي يمكنُ أن تحول أيّ موقفٍ تفاوضيٍّ إلى فرصةٍ لبناءِ علاقاتٍ قويةٍ وتحقيقِ نجاحاتٍ ملموسةٍ.
لذلك، في المرّةِ القادمةِ التي تجدُ نفسك في تفاوضٍ صعبٍ، تذكّر أنّ القوة ليست في السّيطرةِ، بل في الفهمِ. استمع، صنّف، وتفاعل مع مشاعرِ الطّرفِ الآخرِ، وستجد أن المفاوضاتِ تصبحُ أكثر سهولةً ونجاحاً.