لماذا تتصدر الإمارات مسيرة الاقتصاد القائم على الغاية؟
الاقتصاد القائم على الغاية لم يعد مفهوماً بعيداً؛ بل هو فرصةٌ فوريةٌ لتوجيه النجاح التجاري نحو أولوياتٍ وطنيةٍ

تتّجه الاقتصادات حول العالم اليوم إلى ما هو أبعد من مجرّد النّجاح الماليّ، متبنّيةً نموذجاً تخلق فيه المؤسّسات قيمةً تعود بالنّفع على المجتمع والكوكب في آنٍ واحدٍ. إنّ هذا التحوّل هو ما يشكّل ما يعرف بـ"الاقتصاد القائم على الغاية" (Purpose Economy)، وهو نهجٌ يدمج الرّبحيّة بالتّأثير الاجتماعيّ والبيئيّ.
بالنّسبة لدولة الإمارات العربيّة المتّحدة، التي تمضي قدماً نحو تحقيق رؤيتها "نحن الإمارات 2031" واستراتيجيّاتها الوطنيّة عبر تحفيز الابتكار وتنويع الاقتصاد وتحقيق النّموّ الشّامل، فإنّ الاقتصاد القائم على الغاية يمثّل فرصةً استراتيجيّةً تتيح إطلاق مصادر جديدةٍ للنّموّ في إجماليّ النّاتج المحليّ (GDP)، واستحداث وظائف نوعيّةٍ للشّباب، واستقطاب استثماراتٍ أجنبيّةٍ عالية القيمة، فضلاً عن ترسيخ مكانتها الرّياديّة عالميّاً في مجال التّنمية المستدامة.
ما هو الاقتصاد القائم على الغاية؟
يمثّل الاقتصاد القائم على الغاية تطوّراً في استراتيجيّة الأعمال؛ إذ تسعى الشّركات بفاعليّةٍ إلى الإسهام في حلّ التّحدّيات العالميّة مثل تغيّر المناخ وعدم المساواة واستدامة الموارد، مع الحفاظ على أداءٍ تجاريٍّ قويٍّ. يشهد هذا التحوّل زخماً متصاعداً عالميّاً، ويعدّ الاستثمار المؤثّر (Impact Investment) أحد المحرّكات الرّئيسة للاقتصاد القائم على الغاية، ويقصد به الاستثمارات التي تهدف إلى إحداث تأثيرٍ اجتماعيٍّ وبيئيٍّ ملموسٍ إلى جانب تحقيق عائدٍ ماليٍّ. وعلى عكس العمل الخيريّ التّقليديّ (Philanthropy)، يحشد الاستثمار المؤثّر رؤوس الأموال لصالح الأعمال التي تتصدّى لقضايا مهمّةٍ مثل الطّاقة النّظيفة والشّمول الماليّ والزّراعة المستدامة، مع بقائها ذات جدوى تجاريّةٍ.
يؤدّي الاستثمار المؤثّر دوراً حاسماً في توجيه الأموال نحو الشّركات التي تحقّق عوائد ماليّةً، وتقدّم في آنٍ واحدٍ تغييراً إيجابيّاً قابلاً للقياس. وقد بلغ حجم سوق الاستثمار المؤثّر اليوم 1.57 تريليون دولارٍ أمريكيٍّ، ما يشير إلى اعترافٍ متزايدٍ بإمكان تضافر الرّبح والغاية معاً. إضافةً إلى ذلك، فإنّ أكثر من 40% من الشّركات النّاشئة حول العالم تدمج الاستدامة في نماذج أعمالها. ومع ذلك، لا تجتذب منطقة الشّرق الأوسط سوى 2% فقط من الاستثمارات المؤثّرة عالميّاً، ممّا يكشف عن فرصةٍ غير مستغلّةٍ لدولة الإمارات لتتبوّأ الصّدارة في هذا المجال.
الاقتصاد القائم على الغاية في دولة الإمارات
تمضي الإمارات قدماً في ترسيخ الاقتصاد القائم على الغاية عبر مزيجٍ من مبادراتٍ حكوميّةٍ وصناديق استثماريّةٍ وسياساتٍ داعمة. فعلى سبيل المثال، تساهم مبادرة "المستقبل 100" (Future 100) في اكتشاف الشّركات النّاشئة الواعدة ودعمها، وقد تضمّنت نسختها الثّانية في عام 2025 عدداً متزايداً من المشاريع المرتكزة على الاستدامة ونماذج الأعمال ذات التّوجّه المؤثّر، ما يسهم في دفع قطاعات الاقتصاد المستقبليّة في الدّولة.
وبالمثل، على الصّعيد الاستثماريّ، يضطلع صندوق (Alterra Fund) البالغ قيمته مليار دولارٍ، والذي أطلق خلال الدّورة الثّامنة والعشرين من "مؤتمر الأطراف لاتّفاقية الأمم المتّحدة الإطاريّة بشأن تغيّر المناخ" (COP28)، بتسريع نموّ المؤسّسات ذات التّركيز على المناخ. وفي الوقت ذاته، تحتضن حاضناتٌ قياديّةٌ مثل "شراع" (Sheraa) في الشّارقة، و"معاً" (Ma’an) في أبوظبي، و"هاب 71" (Hub71) في أبوظبي — التي تستقطب الشّركات النّاشئة في مجال التّكنولوجيا المناخيّة — روّاد الأعمال ذوي التّوجّه الاستداميّ من خلال برامج ودعمٍ تمويليٍّ موجّه.
وعلاوةً على الاستثمار والاحتضان، تعزّز المبادرات البيئيّة في الدّولة، مثل "استراتيجيّة الإمارات للحياد المناخي 2050" (Net Zero by 2050 Strategy)، مناخاً مواتياً للشّركات القائمة على الاستدامة. كما يدعم "البلوك فيزا" (Blue Visa)، المصمّم لجذب المواهب العالميّة في مجالات الاستدامة والمناخ، مكانة الإمارات بوصفها مركزاً للابتكار المعنيّ بالغاية. وفي الوقت نفسه، يرسّخ سلوك المستهلك هذا النّزوع؛ إذ إنّ نحو نصف المستهلكين في الإمارات يتّخذون من الغاية عاملاً رئيساً عند الشّراء، مولين اهتماماً بالشّركات التي تتوافق مع قيمهم، سواءٌ من حيث الاستدامة أو العروض الصحيّة أو المبادرات ذات الأثر الاجتماعيّ.
ومن خلال عملي مع "مينا إمباكت" (MENA Impact)، لمست عن كثبٍ كيف تتحوّل المؤسّسات في الإمارات والمنطقة عموماً إلى نماذج ذات توجّهٍ هادفٍ. إنّنا ندعم الشّركات والأفراد في دمج الاستدامة في استراتيجيّات أعمالهم، ونزوّدهم بالأدوات والموارد والشّبكات اللّازمة للانتعاش في اقتصادٍ موجّهٍ بالأثر. وتتزايد الطّلبيّة على ذلك في مختلف القطاعات، من المؤسّسات الكبيرة حتّى الشّركات الصّغيرة والمتوسّطة والشّركات النّاشئة، كلّ ذلك لأنّ مزيداً من المؤسّسات باتت تدرك المزايا الاستراتيجيّة والاقتصاديّة لإدخال الغاية في صلب أعمالها.
الميزة الاقتصاديّة للاقتصاد القائم على الغاية
حقّقت الدّول التي أدمجت النّماذج الاقتصاديّة القائمة على الغاية منافع ماليّةً واجتماعيّةً ملموسة. ففي المملكة المتّحدة مثلاً، تشير تقارير "الغنيمة المستمدّة من الغاية" (Purpose Dividend Report) إلى أنّ التحوّل نحو الاقتصاد القائم على الغاية يمكن أن يزيد النّاتج المحلّيّ الإجماليّ بما يعادل 149 مليار جنيهٍ إسترلينيٍّ سنويّاً، أي ما نسبته 7%.
بالنّسبة للإمارات، يمكن لتبنّي الاقتصاد القائم على الغاية أن يفتح الأبواب أمام الفوائد الاقتصاديّة التّالية:
-
تسريع نموّ النّاتج المحلّيّ الإجماليّ:
إذ توفّر الشّركات ذات التّوجّه الهادف أسواقاً جديدةً ومصادر دخلٍ عن طريق تلبية احتياجاتٍ اجتماعيّةٍ وبيئيّةٍ غير ملبّاةٍ. وعلى صعيدٍ عالميٍّ، تمثّل المؤسّسات الاجتماعيّة قوّةً اقتصاديّةً ملموسةً؛ إذ تشير "المنتدى الاقتصادي العالمي" (World Economic Forum) إلى وجود نحو 10 ملايين مؤسّسةٍ اجتماعيّةٍ حول العالم، تولّد إيراداتٍ سنويّةً بحوالي تريليوني دولار، وتنشئ 200 مليون وظيفةٍ. وببناء قاعدةٍ صلبةٍ من الشّركات المؤثّرة، يمكن للإمارات أن تدعم نموّ اقتصادها غير النفطيّ، وتعزّز مكانتها بصفة مركزٍ ابتكاريٍّ. -
إيجاد الوظائف وتطوير المواهب:
يسهم الاقتصاد القائم على الغاية في خلق فرص عملٍ شاملة، بدءاً من الوظائف المتخصّصة في التّكنولوجيا الخضراء والتّكنولوجيا الماليّة (FinTech)، وصولاً إلى المشروعات المجتمعيّة. وغالباً ما تنخرط المؤسّسات المبنيّة على رسالةٍ اجتماعيّةٍ في دعم الفئات غير المستثمرة بالكامل، وتعمل على تنمية رأس المال البشريّ المحليّ. كما تجتذب هذه الشّركات المواهب، لا سيما الشّباب الباحثين عن توافقٍ بين قيمهم الشّخصيّة وخياراتهم المهنيّة. -
استقطاب الاستثمار الأجنبيّ المباشر (FDI):
يوجّه المستثمرون أموالهم بشكلٍ متزايدٍ إلى الشّركات التي تزاوج بين الرّبح والغاية. وقد شهد الاستثمار المؤثّر نموّاً ملحوظاً، مما يعكس اهتماماً متصاعداً بالأعمال التي تجمع بين العوائد الماليّة والأثر الاجتماعيّ والبيئيّ الملموس. وبتموضعها بوصفها رائدةً إقليميّةً في الاقتصاد القائم على الغاية، يمكن للإمارات أن تستقطب حصةً أكبر من تلك الاستثمارات، معزّزةً بذلك استراتيجيّتها الرّامية إلى مضاعفة التّدفّقات السّنويّة للاستثمار الأجنبيّ المباشر لتبلغ نحو 65 مليار دولار بحلول عام 2031.
ويعدّ نموذج أمستردام خير مثالٍ على مدينةٍ دعّمت الاقتصاد القائم على الغاية من خلال مقاربةٍ تعتمد على المنظومة المتكاملة. فقد أطلقت أمستردام مبادرة "أمستردام إمباكت" (Amsterdam Impact)، وهي مبادرةٌ حكوميّةٌ تربط الشّركات ذات التّوجّه الهادف بالمستثمرين والحاضنات والدّعم العام، ما أسفر عن ترسيخ مكانة المدينة بوصفها رائدةً أوروبيّةً في ريادة الأعمال المؤثّرة، وإدماج المؤسّسات الاجتماعيّة في صلب الاقتصاد الرّئيس. ويمكن للإمارات أن تتبنّى إطاراً مماثلاً، معتمدةً على الشّراكات بين القطاعات لدفع عجلة اقتصادها القائم على الغاية.
تعزيز المنظومة: السّياسات والتّشريعات
أحرزت الإمارات تقدّماً كبيراً في دعم ريادة الأعمال والابتكار، ولتعظيم هذا الزّخم، تستطيع تسريع الاقتصاد القائم على الغاية من خلال أطرٍ تنظيميّةٍ مصمّمةٍ خصّيصاً، وحوافز حكوميّةٍ داعمة، وذلك عبر:
-
إرساء إطارٍ قانونيٍّ للشّركات ذات التّوجّه الهادف:
استحداث تصنيفٍ رسميٍّ لـ"الشّركات المؤثّرة" يمنح هذه المؤسّسات وضعاً قانونيّاً محدّداً، يشبه نظام "المؤسّسة ذات الرّسالة" (Entreprise à Mission) في فرنسا أو "الشّركة ذات المنفعة" (Benefit Corporation) في الولايات المتّحدة. ويقدّم هذا الإطار وضوحاً وامتيازاتٍ قانونيّةً، مثل الإعفاءات الضّريبيّة والأولويّة في المشتريات الحكوميّة للشّركات التي تستوفي معايير بيئيّةٍ واجتماعيّةٍ وحوكميّةٍ (ESG) محدّدةٍ، إلى جانب الشروط المطلوب تحقيقها في الأثر الاجتماعيّ. -
إطلاق صندوق استثمارٍ مؤثّرٍ مخصّص:
تأسيس صندوقٍ للابتكار المؤثّر عبر دعمٍ حكوميٍّ أو شراكاتٍ بين القطاعين العامّ والخاص، لتقديم منحٍ وقروضٍ ميسّرةٍ وتمويلٍ مرتبطٍ بالأثر (Impact-linked Financing) للشّركات النّاشئة والمشروعات الصّغيرة والمتوسّطة التي تطوّر حلولاً متوافقةً مع أهداف الاستدامة والأثر الاجتماعيّ للإمارات. -
تبسيط التّراخيص والامتثال:
تيسير الإجراءات التّنظيميّة وتخفيف الأعباء الإداريّة أمام الشّركات ذات التّوجّه الهادف في المراحل الأولى للنمو. قد يشمل ذلك الإسراع في منح الموافقات وخفض تكاليف التّراخيص، إذا التزمت المؤسّسة بتحقيق أهدافٍ اجتماعيّةٍ أو بيئيّةٍ محدّدةٍ وقابلةٍ للقياس. -
تشجيع الشّركات على اعتماد معايير الأثر:
دفع المؤسّسات إلى توحيد أطر قياس الاستدامة والأثر وفق معاييرٍ معترفٍ بها، مثل اعتماد شهادات "بي كورب" (B Corp) أو الالتزام بإرشادات التّقارير البيئيّة والاجتماعيّة والحوكميّة في الإمارات، لتعزيز الشفافية والمساءلة عبر مختلف القطاعات.
اقتناص الفرصة
لم يعد الاقتصاد القائم على الغاية مجرّد مفهومٍ مؤجّل، بل هو فرصةٌ حاضرةٌ لجعل النّجاح التّجاريّ متوازياً مع الأولويّات الوطنيّة. ومع استهداف الإمارات جذب استثماراتٍ أجنبيّةٍ مباشرةٍ بقيمة 65 مليار دولارٍ سنويّاً بحلول عام 2031، فإنّ دمج المؤسّسات ذات التّوجّه الهادف في سياسات الاستثمار قد يعزّز مكانة الدّولة بصفتها مركزاً عالميّاً رائداً للأعمال المستدامة والابتكار.
ومن خلال اتّخاذ هذه الخطوات الجريئة، ستترسّخ ريادة الإمارات في طليعة هذا التّحوّل الاقتصاديّ. وستنعكس الثّمار في بناء اقتصادٍ أكثر ابتكاراً وصلابةً، يحقّق نموّاً أعلى، ويحدث أثراً اجتماعيّاً ملموساً. إنّ هذا التّوافق بين القيمة الاقتصاديّة والقيمة المجتمعيّة سيعزّز المكانة العالميّة للإمارات بصفتها رائدةً في بناء اقتصادٍ قائمٍ على الغاية للمستقبل.
حول الكاتبة
نادين زيداني، رائدة فكرٍ في مجال الأعمال ذات التّوجّه المؤثّر والاستدامة وريادة الأعمال القائمة على الغاية في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهي المؤسّسة لـ"مينا إمباكت" (MENA Impact)، وهي مؤسّسةٌ حائزةٌ اعتماد (B Corp) في الإمارات، حيث تسعى إلى تمكين المؤسّسات والمحترفين من دمج الاستدامة في نماذج أعمالهم، بما يسهم في بناء اقتصادٍ أكثر صلابةً وقائمٍ على الغاية. فضلاً عن ذلك، تضطلع نادين بدور المتحدّثة العامّة ومقدّمة برنامج "إمباكت توك" (Impact Talk) الإذاعيّ؛ حيث تجري حواراتٍ مع صنّاع التّغيير الذين يعيدون تعريف النّجاح عبر الجمع بين الرّبح والأثر.