لماذا تشتري الصين الذهب: وهل هي وراء ارتفاع سعره عالمياً؟
الصين تستثمر بكثافة في الذهب للتصدّي للتوترات الاقتصادية والجيوسياسية، ما يؤدي إلى ارتفاع سعر الذهب عالمياً وتعزيز مكانة اليوان كعملة احتياطية
لماذا تشتري الصين الذهب؟ وهل هي وراء ارتفاع سعره عالميّاً؟ لا يبدو هذا السُّؤال مُهمّاً جدّاً، بقدر أهمِّيَّة التَّساؤل حول ماذا يمكن أن ينتجَ لاحقاً من تداعيات وآثار النَّهم الصّينيّ لشراء الذَّهب، وهل حقّاً بدأت عمليَّة التَّحوُّل نحو عالمٍ مُتعدِّد الأقطاب كما يقال؟ دعونا نحاول مناقشة هذا الواقع بالاستناد إلى تحليل السِّياقات التَّاريخيَّة والحاليَّة لفهم جدليَّة الصين والذهب، وبحث آثارها المحتملةِ.
أسباب ارتفاع سعر الذهب المستمر
التَّوتُّرات الجيوسياسيَّة واحدةٌ من أهمّ أسباب ارتفاع سعر الذَّهب المستمرّ؛ حيث تتلاحق التَّوتُّرات العالميَّة منذ نحو عامين، تندلع الحروب في بقعةٍ تليها بقعةٌ ثانيةٌ، وفي مثل هذه المراحل التي تُسبِّب حالةً من عدم اليقين الاقتصادي يزداد الإقبال على الذهب بوصفه ملاذاً آمناً لمعظم المستثمرين.
أسعار الذهب وصلت إلى أرقامٍ قياسيَّةٍ خلال عام 2024، ليتجاوز سعر الأونصة الذَّهبية الـ2400 دولارٍ في شهر أيَّار الماضي، قبل أن تنخفضَ بنسبةٍ قليلةٍ، ويرى الخبير الاقتصاديُّ David Rosenberg، رئيس مؤسَّسة روزنبرغ البحثيَّة، أنَّ الذهب يمكن أن يرتفعَ إلى 3000 دولارٍ أميركيٍّ.
وأعاد الخبير الاقتصاديُّ أسباب ارتفاع الذهب إلى عدَّة عوامل رئيسيَّةٍ، هي: [1]
- إعادة البنوك المركزيَّة اعتبار الذَّهب كأصل احتياطيٍّ.
- فقدان اليوان الصّينيّ قيمته.
- تقليل بعض الدُّول من الاعتماد المفرط على الدُّولار والتُّحولُ باتجاه الذَّهب كملاذٍ آمنٍ.
- الاستخدام الصناعيُّ المتزايد.
بدوره قال الباحث في الشُّؤون الاقتصاديَّة مازن أرشيد الذي يبدو أنَّه يتَّفق مع رؤية زميله روزنبرغ في تصريحاتٍ نقلتها سكاي نيوز عربيَّة، قال: "إنَّ التَّوتُّرات الحاليَّة وحالة عدم الاستقرار الجيوسياسيّ من أبرز عوامل ارتفاع سعر الذهب".
كذلك لا يخفي الباحث الاقتصاديُّ، تأثير سياسات الاحتياطيّ الفيدراليّ الأميركيّ والتَّضخُّم على سعر الذهب، ويضيف أنَّ استمرار توقُّعات خفض أسعار الفائدة في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، يزيد من جاذبيَّة المعدن النَّفيس من قبل المستثمرين الذين يرون فيه ملاذاً أكثر أماناً من أيِّ استثمارٍ آخرَ، على الرَّغم من انعدام عوائده. [2]
أسباب موجة شراء الذهب في بكين
تشير التَّوقُّعات إلى أنَّ أحد أبرز أسباب موجة شراء الذَّهب في بكين هو التَّوتُّرات في تايوان ورغبة الصين في الاستعداد إلى مواجهةٍ طويلة الأمد.
فقد ازداد إقبال الصين على الذهب منذ بداية العام الحاليّ، في خطوةٍ أثارت دهشة العالم، حيث جمعت 27 طناً من المعدنِ الأصفر خلال الرُّبع الأوّل من العام الجاري، وهو ما أدَّى إلى وصول إجماليّ احتياطات بكين من الذَّهب إلى مستوى 2262 طناً.
وعلى الرَّغم من أنَّ الذَّهب يُعدُّ منذ القدم ملاذاً آمناً في أوقات عدم اليقين الاقتصاديّ، إلَّا أنَّ حجم وتوقيت عمليَّات الشّراء الصّينيَّة أثار الدَّهشة على مستوى العالم، وغالباً فإنَّ السَّبب الرَّئيسيَّ مرتبطٌ بالتَّوتُّرات المتصاعدة المحيطة بقضيَّة تايوان، ورغبة الصّين في المواجهة والتَّحوُّط من العقوبات الغربيَّة المحتملة ضدَّها. [3]
شاهد أيضاً: Buna للدفع يضم العملات الصينية والهندية والباكستانية إلى منصته
لماذا تشتري الصين المزيد من الذهب؟
إذن، لماذا تشتري الصين المزيد من الذهب؟ السُّؤال الذي ما يزال يُحيِّر كبار الاقتصاديِّين حول العالم، إذ لا يُمكن المبالغة في الأهمّيَّة الاستراتيجيَّة للذَّهب في أوقات الاضطرابات الجيوسياسيَّة، وعبر التَّاريخ كانت الدُّول تلجأ للذَّهب كوسيلةٍ لحماية ثرواتها واستقرار عملتها خلال فترات الأزمات.
ومن خلال تعزيز احتياطاتها من الذَّهب، ربَّما تسعى الصين إلى عزل نفسها عن التداعيات الاقتصادية المترتّبة على أيّ صراعٍ محتملٍ بشأن تايوان، في حين تشير أيضاً إلى قوَّتها الاقتصاديَّة وقدرتها على الصُّمود على السَّاحة العالميَّة.
إضافةً إلى ما سبق، يمكن النَّظر إلى استراتيجيَّة تراكم الذهب في الصين باعتبارها وسيلةً للتَّحوُّط ضدَّ المسار غير المؤكَّد للدُّولار الأمريكيّ، وخاصَّة في ظلّ التَّوتُّرات التّجاريَّة المستمرَّة وشبح التَّضخُّم.
وفي السَّنوات الأخيرة، أعربت بكين عن رغبتها في تقليل اعتمادها على النّظام الماليّ العالميّ الذي يهيمن عليه الدُّولار، وقد يكون توسيع احتياطيّات الذهب جزءاً من جهدٍ أوسع للتَّنويع والتَّخفيف من مخاطر العملة. [3]
لماذا تسعى الصين لتقليل اعتمادها على الدولار؟
لماذا تسعى الصِّين لتقليل اعتمادها على الدُّولار؟ هل يتعلَّقً الأمر بسعي بعض الدُّول إلى كسر هيمنة الدُّولار والتَّحوُّل إلى نظامٍ عالميٍّ جديدٍ مختلفٍ كُلّيَّاً كما يُقال؟
لم يتوقَّف التَّنافسُ بين الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة والصّين التي تُعدُّ ثاني أكبر القوى الاقتصاديَّة على مستوى العالم، بأيّ مرحلةٍ من المراحل وبخلاف ذلك فإنَّ وتيرة التَّنافس تزداد يوماً بعد يوم. إذ بدأت الصِّين عمليَّة التَّخلُّص من الدُّولار في تجارتها الخارجيَّة قبل نحو 14 عاماً، ومع بداية 2023، باتت معظم معاملاتها الخارجيَّة تتمُّ بعملتها المحلّيَّة اليوان.
وعملية التَّحوُّل السَّريعة تلك لم تأت من فراغٍ، استفادت الصّين من تجربة روسيا وجعلتها درساً مُهمّاً لها؛ حيث عانى الاقتصاد الرُّوسي ما عاناه نتيجة الإجراءات الأمريكيَّة ردَّاً على الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة، وفي حال حدوث صراعٍ مشابهٍ بين تايوان والصّين، ربَّما تقوم الولايات المتَّحدةُ الأمريكيَّة بالأمرِ ذاته، فماذا قد يحدث؟
تتزايد المخاوفُ من إمكانيَّةِ طرد الصين من نظام الرَّسائل الماليَّة "سويفت" أو قطع أصولها الأجنبيَّة إذا ساءت العلاقات مع الولايات المتَّحدة لأيِّ سببٍ كان، مثل احتمال نشوب صراعٍ بين الصّين وتايوان.
ويشير دعم الصِّين لتوسيع منظَّمة شنغهاي للتَّعاون ومجموعة البريكس على مدى العامين الماضيين، لتشمل الدُّول الرئيسيَّة المصدِّرة للسِّلع الأساسيَّة، مثل: إيران والمملكة العربية السُّعوديَّة والإمارات العربيَّة المتَّحدة، بين دولٍ أخرى، إلى أنَّها تتطلَّع إلى فرصٍ جديدةٍ لتسريع استخدام اليوان في تجارة السّلع الأساسيَّة.
إنَّ سعي الصِّين إلى استخدام عملتها على نطاقٍ أوسع وإنشاء نظامٍ ماليٍّ بديلٍ يعني التَّخلُّص من الدُّولار على أرض الواقع.
الصين ومن خلال تنويع اقتصاداتها بعيداً عن الدُّولار الأميركيّ، والنّظام القائم على الدُّولار، سوف تَحُدُّ من نقاط ضعفها الجيوسياسيَّة وسوف تُعزّزُ أمنَها الماليَّ في مواجهة التّحدّيات المحتملة. [4]
هناك ناحيةٌ في غايةِ الأهمِّيَّة هنا، زيادةُ احتياط الصين من الذهب، قد يسهمُ في تعزيز مصداقيَّة وجاذبيَّة اليوان كعملةٍ احتياطيَّةٍ دوليّةٍ، وقد يُشجِّع اعتمادَه من قبل الدُّول الأخرى في التّجارة الدَّوليَّة والمعاملات الماليَّة، وهذا يعني أنَّ شراء الصِّين للذَّهب ربَّما يكون لكسر هيمنة الدُّولار أيضاً.
أبعاد تعزيز الصين لمخزونها من الذهب
تبدو أبعاد تعزيز الصين لمخزونها من الذهب إيجابيَّةً بالنّسبة لبعض الدُّول، وسلبيّةً بالنّسبة لدولٍ أخرى، فالتَّراكم السَّريع لاحتياطات الذهب في الصين يؤثِّر على الاقتصاد العالمي من خلال: [5]
زيادة الطلب على الذهب
ساهمت مشتريات الصين من الذهب في زيادة الطَّلب على المعدن الثَّمين، ما أدَّى إلى ارتفاع سعره في السُّوق العالميَّة، وهذا يمكن أن يفيدَ البلدان المنتجة للذَّهب والصّناعات المُرتبطة بالذَّهب، وكذلك المستثمرين الذين يحتفظون بالذَّهب كجزءٍ من محافظهم الاستثماريَّة.
ضعف الدولار الأمريكي
مع قيام الصين بتنويع احتياطيَّاتها من النَّقد الأجنبيّ بعيداً عن الدُّولار الأمريكيّ باتجاه الذَّهب، قد يؤدّي ذلك إلى فرض ضغوطٍ هبوطيَّةٍ على قيمة الدُّولار، كذلك يُمكن أن يؤدّي ضعفُ الدُّولار الأمريكيّ إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد بالنّسبة للولايات المتَّحدة ويؤثّر على التّجارة العالميَّة؛ حيث يتمُّ تسعير العديد من السّلع الأساسيَّة، بما في ذلك النّفط، بالدُّولار الأمريكيّ.
التحول في المشهد النقدي العالمي
يُمكن لاستراتيجيَّة تراكم الذهب في الصين أن تغيِّرَ ميزان القوى في المشهد النَّقديّ العالميّ، إذا أصبح اليوان مقبولاً على نطاقٍ واسعٍ كعملةٍ احتياطيَّةٍ دوليَّةٍ، فقد يؤدّي ذلك إلى تقليل هيمنة الدُّولار الأمريكيّ ويؤدِّي إلى نظام عملةٍ احتياطيَّةٍ عالميٍّ أكثرَ تنوُّعاً.
التأثير المحتمل على إمدادات الذهب العالمية
قد تؤدِّي فورة شراء الذهب في الصين إلى إجهاد إمدادات الذَّهب العالميَّة، ما يؤدِّي إلى مخاوف بشأن استدامة إنتاج الذَّهب، وربَّما تبدأ النّقاشات حول الاستثمارات البديلة أو الأصول الاحتياطيَّة، مثل العملات المشفَّرة أو السّلع الأخرى.
باختصارٍ، مع استمرار الصين في تكديس الذَّهب، سيكون من الأهمّيَّة بمكانٍ بالنّسبة للمستثمرين والحكومات والبنوك المركزيَّة في جميع أنحاء العالم أن يقوموا بمراقبة تصرُّفات البلاد وتكييف استراتيجيَّاتهم وفقاً لذلك.
أهم تداعيات رفع الصين لمخزون الذهب
الصَّدمات في السوق العالمية واحدةٌ من أهمّ تداعيات رفع الصِّين لمخزون الذَّهب لديها، فقد أدَّى شراء بكين المكثَّف للذَّهب خلال الفترة الأخيرة إلى حدوث تلك الصَّدمات، ما أثَّر على جوانب مختلفةٍ من المشهد الماليّ العالميّ، مثل: [6]
ارتفاع الأسعار: كان ارتفاع الأسعار التَّأثير الفوريّ، حيث ارتفعت أسعار الذَّهب نتيجة الطَّلب الصّينيّ الكبير عليه، ما يُمكن أن يؤدّي إلى تثبيط الاستثمارات في القطّاعات الأخرى مع تركيز المستثمرين على شراء الذهب.
هيمنة الدولار: تنويع الاقتصاد الصّيني بعيداً عن الدُّولار الأميركيّ سيؤدّي إلى إضعاف السَّيطرة المطلقة للدُّولار باعتباره العملة الاحتياطيَّة العالميَّة، كما سيؤدّي إلى بروز عالمٍ متعدِّد الأقطاب، ومن المحتمل أن تلعبَ عملاتٌ أخرى، مثل: اليورو واليوان، دوراً أكبر فيه، من المفيد معرفة أنَّ هذا لن يحدث بين ليلةٍ وضحاها فنحن نتحدَّث عن الدُّولار.
استراتيجيَّات البنك المركزيِّ: قد تدفع تصرُّفات الصّين البنوك المركزيَّة الأخرى إلى شراء الذَّهب، كما أنَّ زيادة شراء الذَّهب من قبل العديد من البنوك المركزيَّة يُمكن أن يؤدِّي إلى ارتفاع أسعار الذهب، وربَّما يؤدِّي إلى تأثير الدُّومينو في إدارة الاحتياطيَّات العالميَّة.
المشهد الاستثماريُّ: ارتفاع أسعار الذهب يُمكن أن يجعلَ الاستثمارات الأخرى، وخاصَّة الأسهم والسَّندات، أقلَّ جاذبيّةً على المدى القصير، ربَّما يؤدِّي ذلك إلى تعديلات المحفظة، حيث يسعى المستثمرون إلى تحقيق التَّوازن بين المخاطر والعائد.
في ظلّ المشهد المتسارع لا يمكن الجزم بأيّ شيءٍ في المستقبل، فالصّين التي أدهشت العالم وأثارت الاستغراب فيه عن سبب نهمها لشراء الذَّهب توقَّفت اليوم، ما زاد من الغموض، فهل ستعيد الشّراء أم أنَّ الأمرَ انقضى؟
شاهد أيضاً: تقارير: الصندوق السعودي يستثمر في شركة صينية لمنافسة OpenAI
هل الصين وراء الارتفاع المستمرّ لسعر الذهب عالميّاً؟
هل الصّين وراء الارتفاع المستمرّ لسعر الذهب عالميّاً؟ في الحقيقة نعم وبلا أيّ مجالٍ للشَّكِّ، على الأقلِّ هذا ما يمكن فهمه من خلال انخفاض سعر الذّهب بمجرَّد إعلان الصّين التَّوقُّف المؤقَّت عن شرائه خلال أيَّار الماضي.
وقال رئيس استراتيجيَّة السِّلع الأساسيَّة للعملاء، Ole Hansen، في مذكَّرة يوم الجمعة 9 حزيران: إنَّ الذَّهب توقَّف عن الارتفاع بعد أخبار نقلتها وكالات الإعلام، تفيد بتوقُّف بنك الشَّعب الصّينيّ مؤقَّتاً عن شراء الذهب بعد سنةٍ ونصفٍ من الشّراء المتواصل".
ويرى Hansen، إنَّ الصّين هي المحرُّك الرّئيسيَّ لارتفاع الذَّهب العام الماضي.
وارتفع الذهب 13% منذ بداية العام الجاري وحتَّى اليوم على أساسٍ مستمرٍّ، ووصل إلى مستوىً قياسيٍّ خلال أيَّار الماضي عند سعر 2433.90 للأوقيَّة، قبل أن ينخفضَ إلى 2339.90 للأوقيَّة مع بداية حزيران الجاري. [7]
على مرّ التَّاريخ لطالما ارتبط سعر الذَّهب بالتَّوتُّرات العالميَّة والمناخات الاقتصاديَّة العالميَّة، لكن بالعموم فإنَّ المعدن النَّفيس شهد ارتفاعاتٍ كبيرةً منذ بداية الألفيَّة الجديدةِ حين كان سعر الأوقيَّة 273 دولاراً، وشكَّلت حرب العراق نقطة تحوُّل ليرتفع إلى 400 دولار، في حين وصل إلى أكثر من ألف دولارٍ عام 2008، ليصلَ اليوم إلى أكثر من 2300 دولارٍ، أي أنَّه ارتفع أكثر من 8 أضعافٍ خلال 24 عاماً.
واليوم تفيد التَّوقُّعات بوصول الأونصة إلى 3 آلاف دولارٍ بحلول نهاية العام 2024 الجاري، فهل تحدث معجزةُ سلام من نوعٍ ما تُخفِّض أسعار الذهب؟ بالنّسبة لي لا أعتقد، وبخلاف ذلك ربّما يقود الجنون هذا العالم إلى مزيدٍ من الحروب والارتفاعات.