ما هي التكلفة الغارقة؟ دراسةٌ تُقارن بين البشر والحمام ستجيبك!
سببٌ بيولوجيٌّ وعصبيٌّ يقف وراء اتخاذنا قراراتٍ غير منطقيةٍ، وفقاً لأبحاثٍ جديدةٍ من جامعة ستانفورد
قبلَ سنواتٍ عديدةٍ، وفي بدايةِ برنامجِ تخرجيّ من درجةِ الماجستير في علمِ النّفسِ، سلّمني مشرفي على رسالةِ الدّكتوراه كومةً من الأوراقِ الأكاديميّةِ. اختفت معظمها من الذّاكرةِ، ولكن واحدةً ما زالت عالقًة في ذهني: وهي دراسةٌ قارنت ما بين الحمامِ والبشرِ، مشيرةً إلى أنّ كلا النّوعين يظهران أخلاقيّاتِ عملٍ عميقةِ المعنى. [1]
فكيف يُمكن النّظرُ إلى بعضِ نقراتِ الحمامِ المُتتابعةِ بحماسٍ، نظرةً مساويةً لصمودِ الإنسانِ واستمراريّتهُ؟ هل يوجدُ نوعٌ من الاستعارةِ هنا، يجبُ أن ننتبهَ له؟ هل نحن مجرّد حمامٍ أغرٍّ، نجوبُ الدّنيا وعبثاً ندقّ أبواباً لا يجبُ أن نقتربَ منها؟ يعتمدُ جزءٌ من الإجابةِ عن هذه الأسئلةِ، أو بعضها على الأقلّ، إلى الأساسِ العصبيّ للتّكاليفِ الغارقةِ.
التّكاليف الغارقةِ هي الاستثماراتُ الّتي لا يمكننا استردادها، سواء كان ذلك في الوقتِ أو الأموالِ أو الجهدِ، أو حتّى الطّاقةِ العاطفيّةِ. وهي تدفعنا إلى سلوكيّاتٍ وقراراتٍ غير منطقيّةٍ، ممّا يجعلنا نعطي الأشياءَ أهميّةً أكبرَ بسببِ ما فقدناهُ بالفعلِ في سعينا وراءها. والأهمّ من ذلكَ، أنّ هذه الظّاهرةَ ليست مقتصرةً فقط على البشرِ، بل يُلاحظ وجودها في عالمِ الحيوانِ، بما في ذلكّ الحمام.
دراسة حول الدوبامين والتكاليف الغارقة
حقّق باحثو جامعة ستانفورد، بما في ذلك أستاذ الطّبِ النّفسيّ وعلم السّلوك "نير إيشل"، في هذا الموضوعِ، وراحوا يستكشفون الأسبابَ وراء اتّخاذنا في معظمِ الأحيانِ قراراتٍ خاطئةٍ استناداً إلى استثماراتنا السّابقةِ، حتّى في ظلّ عدم وجودِ أيّ فائدةٍ حقيقيةٍ في المدى المنظورِ، بمعنى آخر، كيف يكون الدّماغُ مسؤولًا عن التّكاليفِ الغارقةِ للبشرِ والحمامِ؟
وتشيرُ نتائجُ أبحاثهم، الّتي نُشرت في مجلّة Neuron، إلى أنّ الدّوبامين -المركّبُ الكيميائيُّ في الدّماغ المُرتبطِ بالمتعةِ والتّعلمِ وتكوينِ العاداتِ- يلعبُ دوراً مهمّاً في هذه العمليّة. وشملت الدراسةُ تجاربَ على الفئرانِ، حيث جرى تعريفُ "التّكلفةِ" على أنّها إمّا جهدُ إدخالِ أنوفهم في فتحةٍ عدّة مرّاتٍ أو تحمّل صدماتٍ كهربائيّةٍ خفيفةٍ من أجلِ مكافأةٍ. وترواحت المكافآتُ من ماءِ السّكر إلى تحفيزِ الدّوبامين المباشرِ في الدّماغِ. كما فرّق الفريقُ بين مدى إعجابِ الفئرانِ بشيءٍ ما (الذي قِيسَ من خلالِ الاستهلاكِ عندما كانت التّكلفةُ صفراً) ومدى رغبتهم فيه (قِيسَ من خلالِ الاستهلاكِ في ظلِّ فرضِ تكاليف متنوّعة).
كما لاحظ الباحثون أنّ زيادةَ الجهدِ أو الإزعاجِ (التّكاليف المذكورة أعلاه)، أدّت إلى إفرازٍ أكبرَ للدّوبامين في نواةِ الدّماغِ، وهي المنطقةُ المرتبطةُ بالحركةِ والحماسِ والإدمانِ. وكانت هذه النّتيجةُ حاسمةً في فهمِ سببِ تقديرنا في بعضِ الأحيانِ بشكلٍ غير منطقيٍّ للمكافآتِ الّتي عملنا بجدٍّ من أجلها، حتّى لو لم تكن مرغوبةً بشكلٍ خاصٍّ، فلنقل مثلاً عند الذّهابِ إلى سباقِ ماراثون، أو الصّيام، أو تسلّق جبلٍ.
كيف تستفيد من ذلك كله لصالحك
تذهبُ نتائجُ هذه الدّراسةُ إلى ما هو أبعدَ من فكرةِ إشباعِ فضولٍ أكاديميٍّ، فهي تساعدُ على شرحِ سبب استمرارنا في المساعي حتّى بعد تاريخِ انتهائها النّسبيّ، سواء كان ذلك مشروعاً فاشلاً، أو أصلاً يتراجعُ في قيمتهِ، أو عادةً غير منتجة. ويبدو أن إفرازَ الدّوبامين العالي في المناطقِ الرّئيسيّةِ في الدّماغِ ضروريُّ لتحفيزِ الجهودِ المتكرّرةِ.
وهذا هو الرّابطُ بين الحيواناتِ (الفئران، الحمام) والبشر. فمفهوم الحاجةِ إلى العملِ بجدٍّ للحصولِ على موردٍ هو غريزةٌ تكيفيّةٌ سبقَ ظهورها ظهورَ الجنسِ البشريّ. ونحن نضيفُ تكاليف إلى أشياءٍ في حياتنا، لأنّ دماغنا يخبرنا (مع إفراز الدّوبامين) بالقيام بذلك. هذا الدّافعُ "للرّغبةِ" موجودٌ، لأنّ الأدمغةَ (والأجسام)، الّتي عملت بجدٍّ وقدّمت الجهدَ، كانت لأولئكَ الذين كُتب عليهم البقاءُ على قيدِ الحياةِ مُتحملين قسوتها. وبالتّالي، من المرّجحِ أن تكونَ سمةُ التّكاليفِ الغارقةِ قد اختيرت منذُ أجيالِ.
وبينما أفّكرُ في هذه النّتائجِ، تكتملُ لديّ الصّورةُ حولَ المقارنةِ بين الحمامِ والبشرِ. فهل نحن حقّاً مختلفون كثيراً عن الحمام الّذي يقوم بالنّقرِ على الأرضِ مراراً، مدفوعون بقوى عصبيّةٍ غير مرئيّةٍ؟ هذه الدّراسةُ لا تبرزُ فقط حتمياتنا البيولوجيّةَ المُشتركةَ، ولكنّها أيضاً تطرحُ تحديّاً لنعيدَ التّفكيرَ في عمليّاتِ اتّخاذ القراراتِ الرّشيدةِ الّتي نعتقدُ بأنّنا نقوم بها.
سيظلّ المبتكرون بحاجةٍ إلى الشّعورِ بالتّقديرِ لجهودهم المبذولةِ. ولأجلِ ذلكَ في المقامَ الأوّلِ يتمكّنون من اختراعِ تقنياتٍ جديدةٍ وبناءِ منتجاتٍ جديدةٍ. وإذا قاموا فقط بالحدّ الأدنى وفقاً للنّماذجِ الاقتصاديّةِ النّسبيّةِ، فلن يبدعوا ولن ينتجوا أشياءَ رائعةً أبداً. وفي حالِ كانت الدّراسةُ صحيحةً، ولا مفرّ من مغالطةِ التّكلفةِ الغارقةِ، فهل تدري ماذا؟ ليس لديّ مشكلةٌ في ذلكَ، لأنّها ليست مغالطةً حقّاً، بل هي تتجاوزُ كونها قوّةً خارقةً تطوريّةً، وأراهنُ أنّ الحمامَ يوافقني على ذلكَ.