مديري غريب الأطوار ودعني أخبرك لماذا نحتاج مدراء مثله
بين الحزم واللطف، دروسٌ في القيادة من مديرٍ لا يُنسى
مؤخّراً، نقلتُ إلى زميلٍ سابقٍ فرصةَ عملٍ بمكاني الحاليّ، وحين سألني عن المديرِ، قلتُ ببساطةٍ: "ليس كأصحابِ البذلِ". هذا الوصفُ كان كافيّاً لإثارةِ حماسهِ، إذ لم أحتج إلى المزيدِ من الشّرحِ، فقد تحدّثنا سابقاً عن معايير المديرين في عملنا السّابق، حيثُ "أصحاب البذل" كانوا يرمزون إلى أولئكَ الّذين قد يختلفون في خلفياتهم الثّقافيّةِ والتّعليميّةِ، ولكنّهم متشابهون في جوهرهم؛ جميعهم يركّزون على الأرقامِ والإيراداتِ والأرباحِ، متجاهلين رأسَ المالِ البشريّ.
عملتُ تحتَ إدارةِ العديدِ من المدراء، إذ كان لأحدهم القدرةُ على كتابةِ مجلّداتٍ عن القيادةِ الحسنةِ والإدارةِ، لكنّ العمل معه لبضعةِ أشهرٍ كشفَ عن عقليةٍ إقطاعيّةٍ متجذّرةٍ وراء كلماتهِ المدروسةِ، وآخرٌ تعلّمَ في جامعاتٍ أجنبيّةٍ واطّلع على أساليبِ القيادةِ الحديثةِ نظريّاً؛ وأؤكّد على "نظريّاً".
أمّا مديري الحاليّ، فهو فعلاً غريبُ الأطواِر، إذ بلغت غرابةُ أطوارهِ حدّاً جعلني أبتسمُ اليوم عندما رأيتهُ يرسلُ لنفسهِ رسالةً عبر الواتساب، على مجموعةِ العملِ، يمتدحُ فيها جهودهُ ونجاحهُ في تحقيقِ أحد أهدافهِ السّابقةِ. الفكرةُ الطّريفةُ والغريبةُ في آنٍ معاً، أن يرسلَ مديرٌ ناجحٌ جدّاً في عالمِ الأعمالِ رسالةً يشكرُ فيها نفسهُ، تكشفُ عن جانبٍ مختلفٍ في عالمِ الإدارةِ، حيث يفترضُ أن يكونَ المديرُ "شخصاً وقوراً"، وبشكلٍ ما ارتبطَ الوقارُ بالتجهّمِ. هذه السّمةُ دفعتني للشّعورِ بأنّني لست وحيدةً في "غرابة الأطوار"، وليست هي السّمة الوحيدة الّتي جذبتني للعملِ تحتِ إدارتهِ.
1. مديري يقدّر الجهود بطريقته الخاصة
على سبيلِ المثالِ، يرسلُ لي رسائلَ صباحيّةً بسيطةً كلّما وجدني أعملُ في ساعةٍ مبكّرةٍ، مفادها: صباح الخير. هذه الرّسائلُ، على بساطتها، تعني الكثير؛ تظهرُ إدراكهُ لجهدي وتقديرهُ له. في عملٍ سابقٍ، استقلتُ لأنّ جهدي لم يكن مقدّراً، وكنتَ أعتقدُ أنّ الخطأ خطئي، وأنّ السّببَ هو عدم لفتي الانتباهِ إلى جهدي. ولكن في الواقعِ، مديري الحالي يلحظُ ويقدّرُ الجهدَ دون حاجةٍ للإعلانِ عنه، خاصّةً وأنّنا بشكلٍ ما، تعلّمنا في مجتمعاتنا العربيّة أنّ الإشارةَ إلى صنائعكَ تندرجُ تحتَ بندِ "المنّة".
مديري ليس غريبَ الأطوارِ فقط، لكنّه ذكيٌّ، فقد أظهرت دراسات أنّ تقديرَ الموظّفين ليس مجرّد لفتةٍ طيّبةٍ، بل هو جزءٌ حيويٌّ من ثقافةِ العملِ النّاجحةِ والمحفّزةِ، وتكشفُ الدّراساتُ أنّ غيابَ الاعترافِ والتّقديرِ هو السّبب الرّئيس لرحيلِ الموظّفين عن وظائفهم، حيثُ يؤكّد 66% منهم أنّهم قد يتركون عملهم إذا لم يشعروا بالتّقديرِ.
كما أثبتت الأبحاثُ أنّ الموظّفين الّذين يشعرون بالتّقديرِ يكونون أكثر تفاعلاً وإنتاجيّةً في العملِ، فالشّركاتُ الّتي تتمتّع بمستوياتٍ عاليّةٍ من الانخراطِ بين الموظّفين تجني أرباحاً أعلى بنسبةِ 21%. وأنّ التّقديرَ لا يحتاج دوماً إلى أن يكونَ ماديّاً؛ فالإشادةُ الشّخصيّةُ أو الرّسالةُ المخصّصةُ يُمكن أن تكونَ بالغةَ الأثرِ، وهذا بالضّبطِ ما فعلهُ برسالةِ "صباح الخير".
2. خفة ظلّه
يتمتّع مديري بروحٍ فكاهيّةٍ تنعكسُ بوضوحٍ في منشوراتهِ الاجتماعيّةِ. وأوّل ما رأيتُ منه كان منشوراً يصرخُ فيه سعيداً لتلقّيه خبراً جيّداً من العملِ وهو مسافر، وبريداً إلكترونيّاً كاد يتسبّبُ في اختناقي من شدّةِ ضحكي، حسناً لم تصل الأمورُ لحدّ الاختناقِ، ولكن دعني أخبركَ أنّني توقّفت عن قراءةِ رسائلهِ وأنا أتناولُ طعامي.
تلكَ الخفّةُ تنثرُ البهجةَ في أرجاءِ الشّركة ويصلُ أثيرها للعاملين عن بعدٍ أيضاً، لتساعدَ في تخفيفِ ضغوطِ العملِ. هذا ليس فقط رأيي؛ فقد أظهرت دراسة نُشرت في مجلّةِ "السّلوكُ التّنظيميّ وعلمُ النّفس الإداريّ" أنّ الفكاهةَ في بيئةِ العملِ تعزّزُ الشّعور بالرّضا الوظيفيّ وتقلّلُ من التّوتر. يستخدمُ مديري النّكتَ بذكاءٍ في الاجتماعاتٍ، ما يجعلُ الجميعَ أكثر استرخاءً ويسهّل عمليّة التّواصلِ.
3. نهجه في تقديم الاقتراحات وترك القرار للمختصّين
يعتمدُ أسلوبُ مديري في إدارةِ الفريقِ على الشّورى والدّيمقراطيّة، وأنا كنت أشعر بردةِ فعلٍ تحسسيّةٍ، كلّما قرأت هاتين الكلمتين، لأنّ ما اعتدتهُ هو فنّ الإيحاءِ إلى أنّ للموظّف رأياً، حتّى إذا ما ساءت الأمور، نجد من نعلّقه في زاويةِ الموظّف الأحمق، أمّا مديري الحاليّ فهو من يطرحُ الأفكارَ ثمّ يفتحُ فعلاً المجالَ أمامنا لنقدّم آراءنا، مانحاً الحريّةَ في اتّخاذِ القراراتِ.
هذا الأسلوبُ يحفّزنا على التّفكيرِ النّقديّ والمشاركةِ الفعّالةِ، إذ تؤكّدُ الأدبياتُ الحديثةُ على أنّ هذا النوع من القيادةِ يستجيبُ بشكلٍ أفضل للتغيّراتِ السّريعةِ، حيثُ يُصبح من الصّعبِ على قائدِ المنظّمةِ وحده اتّخاذ قراراتٍ دقيقةٍ ومؤثّرةٍ في ظلّ هذه الظّروفِ المتقلّبةِ. والنّهجُ التّشاركيّ يشركُ الموظّفين في عمليّةِ اتّخاذِ القرارِ، ما يُثري العمليّة الإداريّة بالأفكارِ الإبداعيّة والحلول المبتكرة، ويُعد ضروريّاً للتّكيّف مع متطلّباتِ السّوقِ المتغيّرةِ.
4. تقبّله للخطأ كجزء من عملية التّعلم
مديري ينظرُ إلى الأخطاء كفرصٍ للتعلّمِ وليس كإخفاقاتٍ، حتّى إنّه اعترف مداعباً بحاجته لنظاراتٍ طبيّةٍ عندما أخطأ في قراءةِ عنوانٍ، وصمتّ أنا وكلّ ما أفكّرُ فيه أنّه يرتدي واحدةً سلفاً، ربّما يحتاجُ أن يمسحها فقط 😅. قد تجد الأمرَ عاديّاً، لكن ما اعتدتهُ من المدراء: أن يلوموا الخطّ، الشّاشة وحتّى موظّف الإنترنت، إلّا أنفسهم، وليس هذا المثال إلا عيّنة تجمعُ بين الرّوحِ المرحةِ وتقبّلِ الخطأ.
هذا النّهجُ يخلقُ جوّاً من الأمان النفسي في العملِ، حيث يمكن للجميعِ أن يجرّبوا ويبتكروا دون خوفٍ. وبالفعلِ تُبرز دراسة بعنوان "ثقافةُ إدارةَ الأخطاء التّنظيميّة وأثرها على الأداء"، كيف أنّ تبنّي ثقافةَ إدارةِ الأخطاء في الشّركات يُعدّ نهجاً بارزاً وفعّالاً في تحسينِ أداءِ المؤسّسات. وتُعنى هذه الدراسةُ بفحصِ آليّاتِ التّعاملِ مع الأخطاءِ في بيئةِ العملِ، من خلالِ التّواصل الواضحِ حولها، والكشفُ السّريعُ عنها، وتحليلها بدقّةٍ، ومن ثمّ معالجتها بكفاءةٍ. وقد وجدت الدّراسة أنّ هناك علاقةً قويّةً بين اعتمادِ هذه الثّقافةِ وتحقيقِ الأهدافِ التّنظيميّة، وتحسينِ الأداءِ الاقتصاديّ للشّركات.
5. مديري يشبه مشروب الطاقة
كم مرّةً سمعتَ عن القيادةِ بالمثلِ، وكم مرّةً شهدتها فعليّاً؟ ماذا يعني أن يتقدّمكَ مديركَ في الاجتهادِ والعملِ بخطوةٍ أو أكثر؟ هذا النّهج يتركُ أثراً عميقاً في نفسي، ويختلف كثيراً عن مديرٍ آخر يديرُ العملَ بمزاجيّةٍ مطلقةٍ، إذ يستيقظُ على نوباتٍ من النّشاط فيطالب الجميع بالاستعدادِ التّام، وغالباً ما يحدثُ هذا في بدايةِ كلّ عامِ. ويبدأ المديرُ بوضعِ خططِ العامِ الجديدِ، ويتحوّلُ إلى شخصيّةٍ قياديّةٍ عسكريّةٍ تطالبُ بالالتزامِ والتّغيير.
ثم ما يلبثُ أن ينقضي الشّهر الأوّل حتّى يتلاشى حضورُ المديرِ إلّا في أوقاتِ الرّواتبِ عندما تؤلمهُ جيبهُ أو المراجعاتُ السّّنويّة إذا وجدَ المديرُ النّتائجَ محبطةً، فيعودُ ليضعَ اللّومَ عليكَ. فرقٌ شاسعُ بين مديرٍ يحفّز نفسهُ بأهدافٍ يكتبها في مذكّراته ثم ينساها، وبين مديرٍ يلتزمُ بها طوالَ العامِ، يراجعها ويقول لك: "هذا العامُ هو عامُ التّمكينِ والمساءلةِ".
وهنا يظهرُ وجهٌ آخر جيّدٌ في مديري، فعلى الرّغم من لطفهِ المبالغ فيه أحياناً، إلّا أنّه يمتلكُ جانباً حازماً وقادراً على المحاسبةِ عند الضّرورةِ؛ هذا التّوازنُ بين اللّطفِ والحزمِ هو مفتاحُ كلّ شيءٍ.
أختتم حديثي بأنّنا جميعاً في حاجةٍ إلى مدراء غريبي الأطوارِ، مدراء يجعلوننا نشعرُ أنّ العمرَ في العملِ ليس إلا رقماً ومزيداً من الخبرةِ. خاصةً في ذلكَ العملِ الّذي لا يتطلّب جهداً بدنياً. مديري، الذي يعاملُ شركاتهِ كمشروعٍ مدرسيٍّ، يأمل أن تختارهُ المعلّمةُ لتعلّقهُ على الحائطِ، مملوءاً بالحماسِ والإلهامِ، لا بدّ أن يتسبّبَ بإصابتكَ بهذا النّشاطِ والتّحفيزِ والإلهامِ: فابحث عن مثله أو كن أنتَ غريبَ الأطوارِ الذي نحتاجهُ.