مراقبة الموظفين عن بُعد: هل تحدّ من التّراخي أم تثير القلق؟
مع تزايد العمل عن بُعد، تلجأ الشركات إلى "برمجيات المراقبة" لضمان الإنتاجية، ولكن هل هذا النهج فعّال أم يأتي بنتائج عكسية؟
في ظلِّ التحوُّلاتِ الكبيرةِ التي شهدها سوقُ العملِ مؤخراً، باتت فكرةُ العملِ عن بُعدٍ واقعاً جديداً لعددٍ كبيرٍ من الموظَّفين حولَ العالم. ومع هذه المرونةِ الجديدة، التي تُمثِّلُ حلماً تحققَ للعديدِ من العاملين، يظهرُ على الجانبِ الآخر من الصّورةِ تحدٍّ جديد: مراقبةُ الإدارةِ لنشاطِ الموظفينَ عن بُعدٍ. فبينما يُسمحُ للموظفينَ بمزاولةِ أعمالِهِم من منازلِهِم، يتزايدُ الاحتمالُ بأنَّ المديرَ يتابعُ كلَّ حركةٍ على شاشاتِهِم.
في ظلِّ هذا الواقعِ الجديدِ، بدأ المديرونَ في استخدامِ تقنياتٍ حديثةٍ لمراقبةِ أجهزةِ الموظَّفينَ بحثاً عن علاماتٍ تدلُّ على تراخيهم في العملِ أو ربما حتى قيامهم بأنشطةٍ شخصيةٍ أثناءَ ساعاتِ العمل. ويبدو من المنطقي أن تسعى الشركاتُ للتأكّدِ من أنّها تحصلُ على الأداءِ الكاملِ مقابل الرواتبِ التي تدفعها، ولكن يبقى السّؤالُ المطروحُ: هل حقاً تُحقّقُ هذه المراقبةُ النتائجَ المرجوّة؟ وهل تستحقُّ كلَّ هذا الجهدِ والاستثمارِ؟
قصة Wells Fargo وتسليط الضوء على "برمجيات المراقبة"
خلال الشّهرِ الماضي، انتشرت أخبارٌ عن قيام بنك Wells Fargo بفصلِ أكثرَ من عشرةِ موظفينَ بسبب "التّظاهرِ بالعملِ". ووفقاً لما ذكره البنكُ في ملّفاتٍ رسميةٍ، فقد تمّ فصلُ هؤلاءِ الموظفينَ بعد مراجعةِ اتِّهاماتٍ تتعلَّقُ بمحاكاةِ نشاطِ لوحةِ المفاتيحِ لإعطاءِ انطباعٍ بأنّهم يعملونَ بجدٍّ. وقد تضمَّنَ ذلك على الأرجحِ استخدامَ أجهزةِ "محركاتِ الفأرةِ" الّتي تسمحُ للموظفينَ بإظهارِ نشاطٍ متواصلٍ على شاشاتِ الحواسيبِ حتى وإن كانوا في الواقعِ يقومونَ بأنشطةٍ أخرى بعيدةٍ كلَّ البُعدِ عن العمل.
هذا النّوعُ من الأجهزةِ الخادعةِ لم يكن سوى استجابةٍ ذكيةٍ لرواجِ استخدامِ "برمجياتِ المراقبةِ" التي بدأت الشركاتُ في تثبيتها على حواسيبِ الموظفينَ منذ فترةٍ، ولكنّها شهدت توسعاً كبيراً مع انتشارِ العملِ عن بُعدٍ بعد جائحةِ كوفيد-19. فمع تحوُّلِ العملِ من المنزلِ إلى الخيارِ المفضَّل لدى 65% من الموظفينَ، أصبح من الضروري بالنسبةِ للشّركاتِ أن تجدَ طرقاً لضمانِ استمراريةِ الإنتاجية.
صناعة جديدة مزدهرة: مراقبة الموظفين عن بُعدٍ
تقديم خدماتِ مراقبةِ نشاطِ الموظفينَ عبرَ "برمجياتِ المراقبةِ" أصبح الآن صناعةً مزدهرةً بحدّ ذاتها. في عام 2022، حقّقت هذه الصناعةُ مبيعاتٍ تُقدَّرُ بحوالي 535 مليون دولار، ومن المتوقّع أن تتجاوزَ المليار دولار بحلولِ عام 2032. هذا النموُّ الكبيرُ يعكسُ مدى انتشارِ استخدامِ هذه التكنولوجيا ومدى اعتمادِ الشركاتِ عليها لمراقبةِ موظفيها.
حتى في عام 2021، أظهر استطلاعٌ شمل 1,250 من قادة الأعمالِ أن 60% من الشّركاتِ كانت تستخدمُ بالفعلِ "برمجياتِ المراقبةِ". ووفقاً لاستطلاعاتٍ أخرى، يتراوحُ معدّلُ استخدامِ هذه البرمجياتِ بين 50% من الشّركاتِ بشكلٍ عامٍ، وأكثر من 90% بين الشركاتِ التي تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على العملِ عن بُعدٍ. وتتنوّعُ أهدافُ هذه المراقبةِ بينَ تحليلِ كيفيةِ استخدامِ الموظفينَ لوقتِهم، والحدِّ من الاستخدامِ الشخصيِّ للمعدّاتِ التجاريةِ، والتأكّدِ بالطبعِ من أنّ الموظّفينَ يعملونَ فعلاً خلال ساعاتِ العمل.
تطوّر التّقنيات وسباقٌ بين الموظفينَ والشركات
في السّنواتِ الأخيرةِ، طورت شركاتٌ مثل Teramind وHubstaff وActivTrak تقنياتٍ قادرةً على اكتشافِ الأجهزةِ التي تولّدُ نشاطاً وهميّاً على لوحةِ المفاتيحِ مثل "محرّكاتِ الفأرةِ". كما أصبحت هذه التّقنياتُ قادرةً على رصدِ الحيلِ الأخرى التي يستخدمها الموظّفونَ، مثل تشغيلِ عروض PowerPoint لإبقاءِ الشّاشةِ مضاءةً خلال فتراتِ الغيابِ الطويلة.
ولكن يبقى السؤالُ: هل تستحقُّ هذه المراقبةُ فعلاً كلَّ هذا الاستثمار؟ يبدو أنّ Wells Fargo وجدَ أن الأمرَ يستحقُّ، ولكن على نطاقٍ أوسعَ، يبقى التقييمُ النهائيُّ مسألةَ تقدير.
إحصاءات وتأملات: هل التراخي مشكلة كبيرة أم صغيرة؟
وفقاً لتقريرٍ حديثٍ في Wall Street Journal، أظهرت تحليلاتٌ أجرتها شركةُ Teramind لنحو مليونِ موظّفٍ تمّت مراقبتهم لصالحِ عملاءِ تجاريينَ أنّ معدلَ التّراخي في العملِ بلغَ 7%. هذا الرقمُ قد يُعتبرُ "قليلاً" بالنسبةِ للبعضِ، وقد يُعتبرُ "هائلاً" بالنسبةِ للبعضِ الآخر.
وبعدَ تحسينِ الخوارزمياتِ المستخدمةِ في تلك الدراسةِ، وجدت Teramind أنّ النسبةَ ارتفعت إلى 8%. وأشارَ مسؤولو الشركةِ إلى أنّ النسبةَ الحقيقيّةَ قد تكونُ أعلى، نظراً لعددِ الحالاتِ التي لم تُدرجْ في الدراسةِ لعدم وضوحِها—فضلاً عن التّراخي المتقنِ الذي لم يتمَّ اكتشافُه.
سواءً اعتبرنا هذه النسبةَ كبيرةً أو صغيرةً، فإنّها تظلُّ تمثلُ مشكلةً حقيقيةً. فالثقةُ بين الموظفينَ ومديريهمْ هي الأساسُ في بناءِ علاقةِ عملٍ صحيّةٍ وإنتاجيةٍ. وفي الاستطلاعاتِ التي أُجريت بين الموظفينَ، يظهر أنّ كثيراً منهمْ يشعرونَ بالاستياءِ من فكرةِ مراقبةِ نشاطِهم عن بُعدٍ.
التّكلفة الحقيقية للتراخي: أرقام وتعقيدات
ما يزال من غيرِ الواضحِ ما هي التكلفةُ الحقيقيةُ للتراخي أو الاستراحاتِ غيرِ المجدولةِ على الشركاتِ. فمحاولةُ تقديرِ الخسائرِ الناتجةِ عن فقدانِ الإنتاجيةِ؛ بسببِ هذا التراخي تعدُّ مهمةً صعبةً، وتخضعُ لعدةِ اعتبارات.
على سبيلِ المثالِ، تشير شركةُ Select Software Review إلى أنّ أصحابَ العملِ في الولاياتِ المتحدةِ يخسرونَ بالفعلِ ما بين 483 مليار دولار و605 مليارات دولار سنوياً؛ بسببِ فقدانِ إنتاجيةِ الموظفينَ. وهذه الأرقامُ قد تفوقُ بكثيرٍ نسبةَ 8% التي سجلتها Teramind.
ومن جهةٍ أخرى، تُظهر الدراساتُ أنّ الموظفينَ الذين يأخذونَ استراحاتٍ منتظمةً يزيدونَ من معدلاتِ إنتاجيتهمْ بنسبةِ 13% مقارنةً بأولئك الذينَ يبقونَ مربوطينَ بمكاتبهمْ. كما تُظهر البياناتُ الحكوميةُ الأمريكيةُ أنّ إنتاجيةَ القوى العاملةِ قد زادت بنسبةِ 60% منذ عامِ 1970، ويرجع ذلك بشكلٍ كبيرٍ إلى فوائدِ مراقبةِ نشاطِ الموظفينَ.
هل العمل عن بُعدٍ مكلفٌ حقّاً؟
مع هذهِ الأرقامِ، يبقى السّؤالُ: هل حقاً تُكلفُ فتراتُ الراحةِ التي يأخذها الموظفونَ من حينٍ لآخرَ، أو حتى تسلُّلهم أحياناً لقضاءِ عطلةِ عملٍ، الشركاتِ خسائرَ كبيرةً؟ ربما لا. ولكن هذا ليس هو مصدر القلق الوحيد. فبالإضافة إلى رغبةِ المديرينَ في الحصولِ على العملِ الكاملِ مقابلَ الأجرِ المدفوعِ، تظلُّ مسألةُ الأمانةِ حاضرةً بقوةٍ.
بعضُ الاستطلاعاتِ تشيرُ إلى أنّ القلقَ بشأنِ خداعِ الموظفينَ لمديريهمْ—وخداعِ زملائهمْ من خلالِ التراخي المخفيِّ—يُعتبرُ من العواملِ الرّئيسةِ التي تدفعُ الشركاتَ لاستخدامِ "برمجياتِ المراقبةِ". وربما يكونُ ذلكَ هو السببُ في أن 97% من الشركاتِ التي استخدمتْ هذه البرمجياتِ لاحظتْ زيادةً في الإنتاجيةِ، مما يشيرُ إلى أنّ مراقبةَ الموظفينَ قد تُؤدّي بالفعلِ إلى زيادةِ الإنتاجيةِ، حتى وإن لم يكنْ ذلك هو الهدفَ الأساسيَّ.
في نهايةِ المطافِ، يبدو أنّ أيامَ "محركاتِ الفأرةِ" باتتْ معدودةً. ومع تطورِ تقنيّاتِ المراقبةِ، يصبح من الصعبِ على الموظفينَ التّراخي، دون أن يتمَّ اكتشافُهمْ. لكن يبقى السّؤالُ الأكبرُ: هل تستحقُّ هذه المراقبةُ كلَّ هذا الجهدِ؟ وهل يمكنُ للشركاتِ أن تجدَ طرقاً أكثرَ توازناً لتحقيقِ أهدافِها دون التأثيرِ سلباً على ثقةِ وإنتاجيةِ موظفيها؟ هذا ما ستكشفُهُ الأيامُ القادمةُ.