مفهوم التمويل المستدام.. لماذا يسبب الذعر للشركات؟
بين انخفاض الأرباح وزيادة القيود التشريعية وغياب الشفافية، يختلط مفهوم التمويل المستدام في الأذهان، فما هو وكيف نُحقّق أفضل استفادة اقتصاديّة منه؟
أصبحت كلمةُ الاستدامة مرادفةً للخسائر الماليَّة والقيود التَّشريعيَّة لدى الكثير من رجالِ الأعمالِ، فمع الارتفاعِ الشَّديدِ في درجةِ حرارةِ كوكبِ الأرضِ وعدم نفعِ أيّ جهودٍ فرديَّةٍ على الإطلاق في حلِّ مشكلاتِ البيئةِ، أصبحت الاستدامة هي العاملُ المُشتركُ في جميع اللِّقاءات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وغيرها.
ومن هنا ظهرَ مفهومُ التمويل المستدام، والَّذي يُحاول التَّوفيق بين صيانةِ البيئةِ وأصحابِ المصلحةِ في الوقتِ ذاتهِ، فقد أصبحت الشَّركاتُ في مأزق تغييرٍ جذريٍّ للكثير من طرقِ أعمالها لتأثيرها شديد السُّوء على البيئةِ، سواءً بالاعتمادِ المُفرطِ على مصادر الطَّاقة والتَّخلُّص من النِّفايات وغيرها، ولكن من ناحيةٍ أُخرى ومع التَّشريعات المنظَّمة الَّتي أصبحت تضعُ البيئةُ في المقامِ الأوّلِ، فإنَّ رجالَ الأعمالِ الَّذين يخالفونها سيتعرَّضون لأضرارٍ ماليَّةٍ أيضاً، مع تهديدِ سمعتهم باعتبارهم من المُساهمين في تدميرِ الكوكبِ.
فما هو التمويل المستدام، وما فوائده والتَّحدِّيات الَّتي تواجهُ تطبيقهُ على مستوى العالمِ، وما المكوِّنات الأساسيَّة له، وكيف يُمكن للشَّركات الاستفادة منه في تحقيق أرباحٍ فعليَّةٍ؟ كلُّ هذا وأكثر سنتعرَّفُ عليهُ في الأسطرِ المُقبلةِ.
تعريف التمويل المستدام
التمويل المستدام ببساطةٍ يعني إجراء تحوُّلٍ عميقٍ في الطَّريقة الَّتي تُسهم بها القروضُ والمساهماتُ الماليَّةُ في توفير مستقبلٍ أكثر خضرةً وإنصافاً واستدامةً، فعلى العكس من التَّمويل التَّقليديّ الَّذي يتجاهلُ التَّأثيرات البيئيَّة لمشروعٍ معيّنٍ، فإنَّ التمويل المستدام يضعُ هذه الاعتبارات في الحسبان عند اتِّخاذ القرارات الماليَّة، فهو يُؤكِّدُ على دعم النُّموِّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ولكن مع تقليل الضُّغوط على البيئة ومعالجة عدم المساواة الاجتماعيَّة مع ضمان الاستدامة على المدى الطَّويل، فهو لم يعد مجرَّد خيارٍ أخلاقيٍّ أو أسلوبٍ دعائيٍّ تمارسهُ بعض الشَّركات، ولكنَّه أصبح استجابةً عالميَّةً شديدة الأهميَّة لمختلف التَّحدّيات الَّتي يفرضها تغير المناخ على الجميع، مع استنزاف الموارد وزيادة الفوارق الاجتماعيَّة. [1]
أهمية التمويل المستدام
يتمتَّع التمويل المستدام بأهميَّةٍ كبرى على المُستوى البيئيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ مع الكثير من الفوائد الَّتي يُحقِّقها في كلِّ مجالٍ من تلك المجالات، فهو في جوهره نهجٌ شاملٌ للاستثمار، وأن يُدركَ المُستثمرُ أنَّ القيمةَ الحقيقيَّة لا تتعلَّق فقط بالعوائد الماديَّة الفوريَّة، ولكن تتعلَّق أيضاً بخلق عالمٍ أفضل للجميع والمواجهة الحاسمة للمشكلات المتنوِّعة الَّتي تُهدِّد جميع الدُّول باختلاف مستوياتها الاقتصاديَّة ومعدَّلات نموِّها.
أبعاد التمويل المستدام
يرتكزُ مفهوم التمويل المستدام على 3 أبعادٍ أساسيَّةٍ، يلعبُ كلٌّ منها دوراً في طريقة توجيه التَّدفُّقات الماليَّة لمشروعٍ معيَّنٍ أو حرمانٍ آخر منها، وتركِّزُ هذه الأبعاد على التَّكامل البيئيّ والاجتماعيّ والحوكمة والاستثمار المؤثِّر والتمويل الأخضر والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وهذه الأبعاد هي: [2]
الأبعاد البيئية
ويبحثُ هذا البعدُ في الطَّريقة الَّتي تتفاعلُ بها الشَّركة مع البيئة وطريقة احترامها لها، ويُقيّم مجالاتٍ، مثل: وسائل إدارة النّفايات واستهلاك الطَّاقة ومعالجة الحيوانات والإجراءات المُتَّخذة؛ لتجنُّب إزالة الغابات وغيرها، فلا يقتصرُ الأمر هنا على تجنُّب الضَّرر البيئيّ فحسب، بل بكيفيَّة إحداث تأثيرٍ إيجابيٍّ على الكوكب من خلال نشاط الشَّركة ومسؤوليَّتها.
الأبعاد الاجتماعية
يدرسُ هذا البعدُ الجانبَ الاجتماعيّ للتّمويل المُستدام للشَّركات، مثل طريقة معاملة الموظَّفين والعملاء والمجتمع عموماً من حولهم، كما تشملُ بعض المجالاتِ مدى التَّنوُّع والشُّمول في المُمارسات الاجتماعيَّة وحماية البيانات وسجل الشَّركة في دعم حقوقِ الإنسانِ ومستوى مشاركةِ أصحابِ المصلحةِ والمُساهمات العامَّة لها في المجتمعِ.
الحوكمة
تعني الحوكمةُ السِّياساتِ والأُطر الَّتي تنتهجها الشَّركة في تحقيق أهدافها، وتعكسُ مدى مسؤوليَّة الرَّئيس التَّنفيذيّ وأصحابِ الشَّركةِ في تضمينِ الفوائد الاجتماعيَّة في الأهداف العامَّة لها، فيركّزُ هذا البعدُ على المعايير البيئيَّة والاجتماعيَّة والحوكمةِ في الهياكلِ والمُمارسات الَّتي تُوجِّه عمل الشَّركةِ، وكيف تُؤثِّر على صنَّاعِ القرارِ، ويتناولُ جوانبَ مثل حقوقِ المُساهمين وشفافيَّة العمليَّات، وتنوِّع وظائف مجلس الإدارةِ وهياكلِ الأجورِ التَّنفيذيَّةِ، كما يأخذُ في الاعتبارِ موقفَ الشَّركةِ بشأن قضايا، مثل: الرَّشوة والمُساهمات السّياسيَّة وطريقة تعويض الشَّركات وغيرها.
أهداف التمويل المستدام
تتركَّزُ أهداف التمويل المستدام على فكرةِ تحقيقِ الصَّالحِ العامِّ، فليس من المهمِّ لمن تذهبُ الأموالُ بقدرِ ما سوف تُسهم في تنفيذهِ من أجلِ البيئةِ والمُجتمع والتَّنمية الاقتصاديَّة، ومن أهمِّ هذه الأهداف:
الأهداف البيئية
يلعبُ التمويل المستدام دوراً حاسماً في مواجهة التَّحدِّيات البيئيَّة، مثل: تَغيُّر المناخ والتَّلوث واستنزاف الموارد، فمن خلال توجيه رأس المال للمشروعاتِ الصَّديقةِ للبيئةِ، فيمكن أن نرى تحسُّناً في تقليلِ انبعاثاتِ الغازات الدَّفيئة وتعزيز الطَّاقةِ المُتجدِّدة والاستخدام المُستدام للأراضي والمياهِ وغيرها.
الأهداف الاقتصادية
يفتحُ التمويل المستدام فرصاً جديدةً في الصِّناعات الخضراء النَّاشئة مع خلقِ فرص عملٍ، ومع دورهِ في تخفيف المخاطر البيئيَّة والاجتماعيَّة، فإنَّ المستثمرين سوف يتمتَّعون بمناخٍ اقتصاديٍّ أكثر استقراراً ومرونةً.
الأهداف الاجتماعية
يتعلَّقُ البعدُ الاجتماعيُّ للتمويل المستدام بضمان أن يكونَ النُّموُّ الاقتصاديُّ شاملاً ومفيداً لجميعِ شرائحِ المجتمعِ، فمن خلال تشجيعِ مشروعات الرّعاية الصّحيَّة والسّكن المُيسّر وخلقِ فرص العمل، يُمكن أن يُساعدَ التمويل المستدام على تحسينِ نوعيَّة الحياة وتعزيز التَّنمية الاقتصاديَّة في المُجتمعاتِ المحرومةِ.
شاهد أيضاً: أسس التخطيط المالي الفعّال: من الأزمات إلى النمو المستدام
عناصر التمويل المستدام
هناك الكثيرُ من العناصر الَّتي تتدخَّلُ في نجاح أو فشل مبادرات التمويل المستدام على المستوى المحلَّيّ أو الإقليميّ أو الدّوليّ، وهذه العناصرُ هي:
- المستثمرون: إذ يُمكِّنهم التَّأثيرُ على سلوك الشَّركات وتشجيع ممارساتٍ تجاريَّةٍ أكثر مسؤوليَّة تجاه البيئة، فمثلاً قد يختارُ صندوق التَّقاعد للاستثمار تمويل الشَّركات الَّتي تتمتَّعُ بسجلَّاتٍ قويَّةٍ في الحدِّ من انبعاثات الكربون، وبالتَّالي تعزيز الممارسات الصَّديقة للبيئة.
- الشَّركات: وهي من العناصر الأساسيَّة في التمويل المستدام أيضاً، فمن خلال الالتزام بالشَّفافيَّة في طريقة تسيير الأعمال وتحسين الأداء البيئيّ والاجتماعيّ والمؤسَّسيِّ، فإنَّها ستجذبُ المستثمرين الدَّاعمين للاستدامة، كما ستُقلِّلُ تكاليف الإنتاج على المدى الطَّويل في حالةٍ مثل التَّحوُّل إلى الطَّاقة المتجدِّدة، وبالتَّالي تُقلِّل من التَّأثيرات السَّلبيَّة على البيئة.
- الحكومات: وهي من العناصر ذات النُّفوذ الكبير والمُتضخِّم في تطبيق مبادرات التمويل المستدام، فمن خلال التَّشريعات الصَّارمة والعقوبات للممارساتِ المضرَّة بالبيئة مع المكافآت والإعفاءات الضَّريبيَّة للشَّركات الَّتي تستثمرُّ في مشروعاتٍ صديقةٍ للبيئة، فإنَّه يمكنُ دفع عمليَّة الاستدامة، ولكنَّ عادةً ما تتحكَّم المصلحة الاقتصاديَّة في الكثير من القرارات الحكوميَّة.
- المجتمع المدنيُّ: وهو يشملُ المنظَّمات غير الحكوميَّة ومجموعات الضَّغط وغيرها، وهي تلعبُ دوراً محوريّاً في رفع مستوى الوعي بأهميَّة التمويل المستدام والدَّعوة المستمرَّة؛ لتبنِّي سياساتٍ أكثر قوَّةٍ فيما يتعلَّق بالقضايا البيئيَّة والاجتماعيَّة.
استراتيجيات التمويل المستدام
لمحاولة التَّوفيق بين أوضاع الشَّركات وبين المتطلَّبات البيئيَّة شديدة الأهميَّة عادةً ما يتبع التمويل المستدام واحدةً أو أكثر من تلك الاستراتيجيَّات:
- السَّندات الخضراء: وهي ما تُعرف باسم التَّمويل الأخضر ومخصَّصة فقط للمشروعات الَّتي تُقدِّم خدماتٍ مباشرةٍ للبيئة، وهذا لأنَّها عادةً لا تحقِّق أرباحاً، بل تكون أشبه بمشروعاتٍ خدميَّةٍ أكثر، وقد شهدت تطوُّراً ملحوظاً في السَّنوات الأخيرة مع بدء تحقيقها أرباحاً معقولةً.
- الاستثمار المؤثِّر: وفيه يسعى المستثمرون إلى إحراز نتائج اجتماعيَّةٍ أو بيئيَّةٍ إيجابيَّةٍ مع العوائد الماليَّة، ويُغطِّي هذا الاستثمار مجموعةً ضخمةً من القطَّاعات بدءاً من التَّعليم إلى الصّحَّة والطَّاقة المُتجدِّدة والزِّراعة وغيرها.
- الخدمات المصرفيَّة المستدامة: وفيها تتبنَّى البنوك سياسات الإقراض الَّتي تمنحُ الأولويَّة للمشروعات الاجتماعيَّة والبيئيَّة، وتُقدِّم فيها خدماتٍ ومنتجاتٍ ماليَّةٍ مصمَّمةٍ؛ لدعم التَّنمية المستدامة مثل الرُّهون العقاريَّة للمنازل الخضراء الموفِّرة للطَّاقة أو القروض للشَّركات الصَّغيرة الَّتي تبدأ في المناطق الأكثر فقراً.
مخاطر التمويل المستدام
إنَّ إدارةَ مخاطر التمويل المستدام من أهمّ أهداف مبادرات المنظَّمات العالميَّة؛ لمحاولة الحدِّ من التَّغيُّر المناخيّ، فهذه المخاطر هي ما تمنع رجال الأعمال في المقام الأوَّل من الاندماج تماماً في المبادرات الصَّديقة للبيئة؛ لذا رصدت الكثير من التَّقارير مجموعة مخاطر للتمويل المستدام يجب العمل الجديُّ عليها لتحقيق التَّوازن الاقتصاديّ والماليّ والبيئيّ والاجتماعيّ المطلوب، وهذه المخاطر هي: [3]
تحقيق أرباح أقل
ففي فترةٍ من الفترات كان تطبيق استراتيجيَّاتٍ صديقةٍ للبيئة يعني أرباحاً أقلَّ، ولكن مع زيادة الوعي الشَّعبيّ بأهميَّة مساندة المشروعات الصَّديقة للبيئة تراجعت حدَّة هذا التَّحدِّي إلى حدٍّ كبيرٍ.
عدم الشفافية
عدم وجود حدودٍ واضحةٍ لما هو خطرٌ على البيئة بالفعل يُقلِّل من قدرة المستثمرين على اتِّخاذ قراراتٍ مستنيرةٍ، وهو واحدٌ من التَّحدِّيات الَّتي تسعى المنظَّمات الدُّوليَّة لحلِّها خصوصاً مع المخاطر الجديدة الَّتي تظهرُ باستمرارٍ.
النتائج طويلة الأجل
فنتائج تطبيق السِّياسات الصَّديقة للبيئة تظهرُ على المدى الطَّويل، وهو ما يُمكن أن يتعارضَ مع الأهداف قصيرة الأمد للكثير من الصِّناعات.
شاهد أيضاً: الصدارة للخليج العربي.. أبرز الشركات الاستثمارية المستدامة
الفرق بين التمويل المستدام والتمويل الأخضر
يعدُّ التَّمويل الأخضر جزءاً أو فرعاً من فروع التمويل المستدام، وهو يستهدفُ المشروعات ذات الفوائد البيئيَّة المباشرة، مثل: تحسين كفاءة الطَّاقة وبناء مصانع صديقةٍ للبيئة أو زراعة مساحاتٍ عملاقةٍ أو غيرها، في حين أنَّ التَّمويل المستدام عموماً قد يراعي فقط ألَّا يكون المشروع الجديد يُضيف المزيد من الأضرارِ للبيئةِ.
في النِّهاية، إنَّ التَّعرُّف على أهميَّة التمويل المستدام والتَّوسُّع في تطبيقهِ لم يعد خياراً مع الانهيار المُتزايد لكوكب الأرض، والَّذي يُهدِّد الجميع بلا استثناءٍ، بل أصبحَ الجميع مسؤولين عن إنجاح هذه المبادرة وتبنِّيها وإجراء تغييراتٍ سريعةٍ تُحقِّق التَّوازن المطلوب بين البيئة والمجتمع وأصحاب المصلحةِ.