نمطان من التفكير يُحددان قوة إرادتك: أيّهما ينطبق عليك؟
العقلية التي تنتج قدراً أكبر من قوة الإرادة والمثابرة والانضباط الذاتي، مدعومة بالعلم.
احسب أنّ أمامكَ شخصين، أحدهما يعشقُ العملَ، وكلّما شعرَ بأنّه أكثر انشغالاً زادت طاقتهُ، فلا تخبو عزيمتهِ، بل تزدادُ اتّقاداً، ولا تفترُ همّتهُ، بل تقوى مع استمرارهِ في العملِ، وتراه يعملُ لأيّامٍ متواصلةٍ غالباً.
أمّا الشّخص الآخر، فهو يرغبُ في أن يكونَ لديه عملٌ يشغله، ولكن ضمن حدودٍ. لا بأس لديه في أن يعملَ في الصّباح وفقَ جدولٍ زمنيٍّ صارمٍ، لكنّه يواجهُ صعوبةً إذا استمرّ ضغطُ العملِ بعد فترةِ الغداء، بحيث يضطر إلى تركِ الأمورِ التي خطّط لها لاحقاً (كالعمل على مشروعٍ إضافيٍّ) في نهار ذلك اليوم أو في المساء جانباً. [1]
ونظراً لأنّ الانضباطَ الذّاتيّ يتطلّب إرادةً قويّةً، والإرادة هي موردٌ محدودٌ، فمن الواضحِ أن أحدهما يتفوّق على الآخر في قوّة الإرادة، أو ربمّا لا يكون الأمرُ كذلك. فوفقاً لدراسةٍ نُشرت في مجلّة العلوم النّفسيّة Psychological Science، في معظم الأحيان يُمكن أن تكونَ قوّة الإرادة ناتجةً عن إحدى طريقتين في التّفكير:
- طريقة تفكيرٍ محدودة: تشعرُ أنّ النّشاط العقليّ المرهق يستنزفُ قواكَ، وأنّك بحاجةٍ لإعادةِ شحن طاقتكَ، وعند تراكم المواقفِ الّتي تثيرُ الإغراء، يُصبح من الصّعب مقاومةُ تلكَ الإغراءات.
- طريقة تفكيرٍ غير محدودة: تشعر أنّ قواك العقليّة تستمدّ الطّاقة من ذاتها، إذ يُمكنكَ مواصلةُ العمل حتّى بعد بذل جهدٍ عقليٍّ شاقٍ، وإذا قاومت إغراءً قويّاً، تشعر بالقوّة والقدرة على مقاومةِ إغراءاتٍ جديدةٍ.
وتؤكّد دراساتٌ أخرى ذلك، نُشرت إحداها في مجلّةِ الشّخصيّة وعلم النّفس الاجتماعيّ Personality and Social Psychology، إذ وجدت أنّ الأشخاصَ الذين يتبنّون طريقةَ تفكيرٍ غير محدودة تجاه الإرادة، عادةً ما يكونون أكثر إنتاجيّةً في اليوم التّالي بعد يومٍ حافلٍ، أمّا الذين يتبنّون طريقةَ تفكيرٍ محدودةً، يشعرون بنقصِ حيويتهم ونشاطهم ويكونون أقل إنتاجيّةً. (يتطلّب الأمر بالنّسبة لهم أخذ يوم راحةٍ لاستعادةِ نشاطهم بعد يومٍ حافلٍ).
وتمتدُّ هذه الظّاهرة إلى مجالاتٍ أخرى في الحياة، إذ أظهرت دراسةٌ نُشرت في المجلّة الأوروبيّة للشّخصيّة European Journal of Personality أنّ الأشخاص الذين يتبنّون طريقة تفكيرٍ غير محدودةً، هم أكثر ميلاً لممارسةِ الرّياضة ومقاومة إغراء تناولِ الوجباتِ الخفيفةِ -خاصّةً في المساء- من الأشخاص الذين يتبنّون طريقةَ تفكيرٍ محدودةً.
تبعاً لكلّ ما ذكرتهُ أعلاه، يبدو أنّ الفارقَ لا يكمن في القوّة "الفعليّة" لإرادتكَ، وإنمّا في نظرتكَ تجاه هذا الأمر. فكّر للحظةٍ، ألا يُمكن للإرادةِ والتّصميم والمثابرة إلّا أن تكونَ سوى تكهّناتٍ تتحقّق تبعاً لما تمليه عليكَ ذاتكَ؟ فإذا كنتَ تعتقدُ أنّ الانهماكَ في العملِ يزوّد بالطّاقة اللّازمة للبقاء على حالة الانهماك هذه، فهذا الذي سيحدثُ.
أمّا إذا كنتَ تعتقدُ أنّ شدّةَ انشغالكَ في العملِ يستنزفُ طاقتك، ويتطلّب فترة راحةٍ وإعادة تهيئةٍ من جديدٍ، وحتّى مكافأةً، فهذا الذي سيحدثُ أيضاً.ليس من السّهل طبعاً تغيير وجهةِ نظركَ حول قوّة الإرادة، خاصةً أنّ معظمنا يقع ضمن نقطةٍ معيّنةٍ على امتدادِ نطاقٍ واسعٍ من أنماط التّفكير المختلفة، ويتأرجح حتّى فيما بينها.
ففي بعضِ الأحيان، يُمكن أن يخلقَ يوم مزدحم شعوراً بالدّافعيّة يجعلك تعمل لأيّامٍ متواصلةٍ دون كللٍ أو مللٍ. وفي وقتٍ آخر، يُمكن أن يجعلكَ مثل هكذا يوم ترغب في التّوقف ومغادرةِ العمل في المساء، وهكذا يُمكن أن يتأثّرَ مدى شعوركَ بالحيويّة أو الإرادة المستنفدة بطبيعةِ النّشاط ذاته أيضاً.
ولكن إذا كنتَ ترغبُ في التّحول بشكلٍ أكبر نحو العقليّة غير المحدودة في التّفكير، فتتمثّل إحدى الطّرق بتذكيرِ نفسكَ بأنّ إرادتكَ وانضباطكَ الذاتيّ تتأثّران بنمطِ تفكيرك. وأظهرت دراسةٌ نشرت في مجلّة Personality and Social Psychology Bulletin أنّ التّفكير في العودةِ إلى وقتٍ عملت فيه على مهمّةٍ صعبةٍ لمدةٍ طويلةٍ تجاوزت ما كنت قد اعتبرته حدود استطاعتك يُمكن أن يساعدكَ في تبنّي عقليّةٍ تفكيرٍ غير محدودة بشكلٍ أفضل.
وتوجد طريقةٌ أخرى تتمثّل في دفعِ نفسكَ بشكلٍ متعمدٍ إلى ما هو أبعد من الحدّ الذي فرضته على نفسك، إذا كنتَ، على سبيلِ المثالِ، لا تمارسُ الرّياضة في حال كُنتَ تضطّر إلى العملِ بعد السّاعة 6 مساءً، فاجبر نفسكَ على القيام بذلكَ. إذ يُمكن للتّجربة أن تساعدَ في إثباتِ أنّ لديك إمكانيّاتٌ أكثر بكثيرٍ ممّا تعتقدُ على الرّغم من كونِ الأمر غير مستساغ بالنّسبة لك.
ولا تنس أنّه عندما يُخبرك عقلكَ بأنّك متعبٌ ومنهكٌ ومستنزفٌ تماماً، فإنّك في الواقعِ استنفدت %40 فقط من إمكانياتك. ولا يزالُ لديك 60% منها متبقيّة دون أن تستفيدَ منها، وذلك وفقاً لقاعدةِ الـ 40%، وهي فكرةٌ روّج لها ديف جوجينز في كتابِ جيسي إتزلر "العيش مع جندي" Living With a Seal.
لن يُمكّنك تجاوز الحدّ الّذي فرضتهُ على نفسكَ من تغيير سقف توقّعاتك حول حدودِ إمكانياتكَ وحسب، بل بوسعه أيضاً أن ينقلَ نمط تفكيركَ حول قوّة الإرادةِ نحو الطّرف الآخر الذي لا يعترف بالحدودِ، بالإضافةِ إلى أنّه سيساعدكَ في التّعامل بشكلٍ أفضل مع الأوقاتِ الّتي يبدو فيها كلّ شيءٍ في الحياةٍ يسير ضدكَ، لأنّك عندها ستدركُ أنّ لديكَ القدرة على مواصلةِ الطّريقِ الذي بدأتهُ بغضّ النّظرِ عن الظّروفِ.