هل تصبح التّكنولوجيا التّعليميّة مستقبل التّعلُّم؟
مع توسّع سوق التّكنولوجيا التّعليميّة في المنطقة، يتزايد اعتماد المدارس والمعلّمين على هذه التّقنيات لتحسين نتائج التّعلُّم وتخصيص التّجربة التّعليميّة للطّلّاب
هذا المقال متوفر أيضاً باللغة الإنجليزية هنا
عندما تسبّبت الجائحة في توقّف عجلة الحياة حول العالم، تحوّلت المدارس والجامعات إلى الأدوات الرّقميّة لضمان استمرار التّعليم. وعلى الرّغم من عودة الطّّلاب إلى الفصول الدراسيّة لاحقاً، استمرّ الاعتمادُ على التّكنولوجيا التّعليميّة، حيث أصبحت جزءاً أساسياً من البيئة التّعليميّة لدعمِ المعلّمين وتحفيزِ الطّّلّاب على التّعلّم بطرقٍ أكثرَ فعاليّة.
تشمل التّكنولوجيا التّعليميّة وفقاً لـ "إنفستوبيديا" (Investopedia) مجموعةً واسعةً من الأدوات مثل منصّات التّعلُّم عبر الإنترنت، والمحتوى التّفاعليّ الرّقميّ، والفصول الافتراضيّة، والتّطبيقات التّعليميّة، والدّورات المفتوحة عبر الإنترنت (MOOCs)، وغيرها من البرمجيّات التّي تدعم العمليّة التّعليميّة، وتسهم في تحسين نتائجها. وتهدفُ هذه التّقنيات إلى جعل التّعليم متاحاً وأكثر جاذبيّةً وكفاءةً للجميع، بما في ذلك مدراء المدارس، والمعلّمين، والطّّلاب، وأولياء الأمور. كما تزوّد المعلّمين بأدواتٍ مبنيّةٍ على الأدلّة لتقييم نتائج الطّّلّاب وتطوير استراتيجياتٍ تعليميّةٍ فعّالة.
تشير التّوقّعات إلى أنّ سوق التّكنولوجيا التّعليميّة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا سينمو ليصل إلى 5.487.7 مليون دولار بحلول عام 2028، مدفوعاً بزيادة الاستثمارات في حلول التّعلُّم الرّقميّ، ودعم الحكومات لتحسين النّتائج التّعليميّة، والطّّلب المتزايد على التّقنيات التّعليميّة المبتكرة. لقد أصبحت دولٌ مثل مصر، والأردن، والإمارات، والسّّعوديّة مراكز رئيسة للتّكنولوجيا التّعليميّة، حيث نرى تنوّعاً في منصّات التّعليم، بدءاً من منصّات التّعليم الخصوصيّ مثل "نون أكاديمي" (Noon Academy) في السّّعوديّة، و"أبواب" (Abwaab) في الأردن، و"أوركاس" (Orcas) في مصر التّي استحوذت عليها مؤخّراً شركة "بايمس" (Baims)، إلى منصّات التّطوير المهنيّ التّي تستهدف المعلّمين مثل "أعناب" (Aanaab) في السّّعوديّة.
يقول حنان مُوتي، الشريك المؤسّس والرّئيس التّنفيذي لمنصّة "آي كود جونيور" (iCodejr) المتخصّصة في تعليم البرمجة، والرّوبوتات، والتّثقيف المالي للأطفال: "دولُ مجلس التّعاون الخليجي في مرحلةٍ حاسمةٍ من رحلتها التّعليميّة. ومع وجود شريحةٍ سكانيّة شابّة وزيادة التّركيز على التّكنولوجيا والابتكار، لم يكن الطّّلب على التّعليم عالي الجودة والمتاح للجميع يوماً، أكبر ممّا هو عليه الآن".
وفي الإمارات، التّي تضم حوالي 551 شركةٍ ناشئةٍ في مجال التّكنولوجيا التّعليميّة بحسب منصّة "تراكسن" (Tracxn.com)، تزداد عمليّات دمج هذه الشّركات المدعومة من الحكومة في الأنظمة التّعليميّة الرّسميّة. ففي عام 2018، أطلقت مؤسّسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالميّة منصّة "مدرسة" (Madrasa)، وهي منصّةُ تعليمٍ إلكتروني مجانيّة تضم أكثر من 5,000 فيديو تعليميٍ مُعرَّبٍ في موادٍ مثل العلوم، والرّياضيات، والأحياء، والكيمياء، والفيزياء. توفّر هذه المنصّة إمكانيّة الوصول لأكثر من 50 مليون طالبٍ عربيٍّ حول العالم، وقد حازت على جائزة اليونسكو/الملك سيجونغ لمحو الأميّة في عام 2022.
أمّا في الأردن، فقد تعزّزت مكانة التّكنولوجيا التّعليميّة على المستوى الحكوميّ على مدى العقدين الماضيين، من خلال مبادراتٍ مثل "تطوير التعليم نحو اقتصاد المعرفة" ومنصّة "إديو ويف" (EduWave) التّي أُطلقت في عام 2003. وفي عام 2021، وضعت الأردن استراتيجيّةً جديدةً للتّكنولوجيا التّعليميّة تعكس التزامها بتقديم برامج إصلاحيّةٍ لتعزيز الوصول إلى التّكنولوجيا في المدارس. تشمل هذه المبادرات منصّاتٍ مثل "إدراك" (Edraak) المدعومة من "غوغل. أورغ" (Google.org) ومؤسّسة "جاك ما" (Jack Ma Foundation)، التّي توفّر منهجاً دراسيّاً عبر الإنترنت لتعليم الرّياضيات واللّغة الإنجليزيّة للمرحلة الابتدائيّة والثّّانويّة، بالإضافة إلى مواقع تحضير الاختبارات مثل "أبواب" و"جو اكاديمي" (Joacademy) التّي تم دمجها في الأنظمة التّعليميّة.
ردم الفجوات التّعليميّة
وفقاً لتقرير "يونيڤداتوس" (UnivDatos)، من المتوقَّع أن يشهد التّعليم العالي أعلى معدَّلات نموٍّ بين جميع قطاعات سوق التّكنولوجيا التّعليميّة بين عامي 2023 و2030، حيث يسعى الطّلاب والمؤسّسات إلى خيارات تعلُّمٍ أكثر مرونةً وسهولةً في الوصول. ومع تزايد انتشار تقنيّات التّعلُّم الإلكترونيّ، يشهد السّوق ارتفاعاً في الدّورات المفتوحة عبر الإنترنت (MOOCs) والأدوات التّفاعليّة التّي تجعل التّعليم أكثر تكيُّفاً، وتسمح بالتّعلُّم عن بُعد، وتعزِّز التّعاون البحثيّ، وتوفِّر فرص تطوير المهارات التّي تلبي متطلّبات سوق العمل المتغيِّر باستمرار.
يؤكِّدُ يُوسُف الحُسيني، الشّريك المؤسّس والرّئيس التّنفيذي لشركة "بايمس" (Baims)، التّي استحوذت مؤخَّراً على منصة "أوركاس" (Orcas) المصريّة، على هذا النمو قائلاً:" شهدت المنطقة زيادةً سريعةً في الاعتماد على التّكنولوجيا الرّقميّة، لا سيَّما في التّعليم، حيث تبحث المدارس والجامعات عن طرقٍ مبتكرةٍ لتعزيز تجارب التّعلُّم. كما ازداد الطّلب على التّعليم عبر الإنترنت والتّعليم المخصَّص بشكلٍ كبيرٍ، ممَّا خلق فرصةً كبيرةً لشركات التّكنولوجيا التّعليميّة".
ويُوضِّح الحُسيني أنّ الاستحواذ على "أوركاس" أتاح لـ"بايمس" إطلاق خدماتٍ جديدةٍ في ثلاث أسواق خلال ثلاثة أشهر فقط، ممَّا يُمهِّد الطّريق لتصبح "بايمس" الرّائدة في مجال التّكنولوجيا التّعليميّة في المنطقة، مع التّركيز على تقديم حلولٍ مخصَّصةٍ للمرحلة الابتدائيّة وحتى التّعليم العالي.
هذا ويدعم ارتفاع الاعتماد على التّكنولوجيا الرّقميّة حقيقة أنّ المنطقة تتمتّع بفئةٍ شبابيّةٍ كبيرة، تتراوح نسبتها بين 25% و50% عبر دول مجلس التّعاون الخليجي، وفقاً لتقرير "أوكسفورد بيزنس جروب" (Oxford Business Group). يقول الحُسيني: "تتمتّع دول مجلس التّعاون الخليجيّ بشريحةٍ سكانيّةٍ شابّة ومتمرِّسة بالتّكنولوجيا، تتطلَّع إلى تبنِّي تقنيّات التّعلُّم الجديدة. تدفع هذه الفئة الطّلب على الحلول التّعليميّة المرنة والمتاحة، ممَّا يُغذِّي سوق التّكنولوجيا التّعليميّة".
تُتيح مرونة التّكنولوجيا التّعليميّة معالجة التّحدِّيات على مستوى المناهج، وطرق التّدريس، والتّعلُّم. ففي فبراير، تعاونت شركة "ألف للتّعليم" (Alef Education) في أبوظبي، والتّي تضمُّ أكثر من مليون مستخدمٍ من الطّلاب، مع "ميتا ميتريكس" (MetaMetrics)، المطوِّر لمقياس ليكسيل للقراءة (Lexile Framework for Reading)، لإدخال مقياس قراءةٍ باللّغة العربيّة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، بهدف معالجة واحدةٍ من أكبر التّحدِّيات في المنطقة: تعلُّم اللّغة العربيّة.
ومع تكامل الذكّاء الاصطناعيّ في الحلول التي تطوّرها شركات التّكنولوجيا التّعليميّة مثل بايمس وألف، تتاح الآن إمكانيات تقديم أساليبٍ تعليميّةٍ مُخصّصة تتناغم مع تنوّع أنماط ومستويات التعلُّم لدى الطّلاب، ممّا يعزّز تجربة التّعلُّم، ويجعلها أكثر فعاليّةً وملاءمةّ للاحتياجات الفرديّة.
ما هو الحدّ الأمثل لاستخدام التّكنولوجيا في التّعليم؟
يُعتبَر صعود التّكنولوجيا التّعليميّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وسيلةً فعَّالةً لردم الفجوات التّعليميّة، خاصّةً في ظلّ عدم التحاق طفلٍ من بين كل خمسة أطفال بالمدرسة، وفقاً لمنظمة "اليونيسف" (UNICEF). ومع ذلك، يُحذِّر تقريرٌ لليونسكو من أن "التّركيز المُفرط على التّكنولوجيا في التّعليم عادةً ما يأتي بتكلفةٍ عاليّة". فالإفراط في الاستثمار في التّكنولوجيا على حساب الفصول الدراسيّة والمعلِّمين والكُتب المدرسيّة، لا سيَّما في البلدان ذات الدّخل المنخفض والمتوسط، قد يُعرقل التّقدُّم نحو تحقيق الهدف العالميّ للتّعليم (الهدف الرّابع من أهداف التّنميّة المستدامة).
ويشير التّقرير أيضاً إلى مخاطر التّشتُّت وقلَّة الاتّصال البشري، مُشدِّداً على أهميّة استخدام التّكنولوجيا التّعليميّة كمُكمِّلٍ، وليس بديلاً عن المصادر التّعليميّة التّقليديّة. لتحقيق ذلك، ينبغي أن تكون الأهداف واضحةً، وأن يستخدم جميع أصحاب المصلحة التّكنولوجيا التّعليميّة لدعم وتعزيز التّعليم التّقليدي.
يشير حنان مُوتي، الشريك المؤسس والرّئيس التّنفيذي لمنصة "آي كود جونيور" (iCodejr.com)، منصّة تعليم البرمجة الصّديقة للأطفال، والتّي جمعت 30,000 دولار من مستثمرين ملائكيين، إلى بعض التّحدِّيات التّي تواجهها الشّركة، مثل الجاهزيّة التّكنولوجيّة والبنيّة التّحتيّة. يقول: "لقد واجهنا تحدِّياتٍ مثل تفاوتِ مستويات البنيّة التّحتيّة التّكنولوجيّة والحاجةِ إلى تعديل المحتوى ليتناسب مع السّياقات الثّّقافيّة المختلفة".
ويضيف: "أوجدت هذه التّحدِّيات أيضاً فُرَصاً للتّعاون. على سبيل المثال، تعاونّا مع معلِّمين محليّين لإنشاء مناهج مخصَّصة، كما عقدنا شراكاتٍ مع منظّماتٍ محليّة لتحسين معدلات محو الأُمِّيَّة الرّقميّة".
من بين المبادرات الأخرى التّي أطلقتها مؤسّسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالميّة، تأتي "المدرسة الرّقميّة"، أوّل مدرسةٍ عربيّةٍ شاملةٍ ومعتمدةٍ عبر الإنترنت، التّي تسعى إلى معالجة الفجوة الرّقميّة من خلال تجهيز مراكز التّعلُّم الرّقمي في مصر، الأردن، بنغلاديش، سوريا، وموريتانيا.
مع توسُّع سوق التّكنولوجيا التّعليميّة لدعم قطاع التّعليم التّقليدي في المنطقة، سيظلّ سدّ الفجوة الرّقميّة عاملاً أساسيّاً لضمان العدالة والشموليّة في الموجة المقبلة من التّعليم، التّي تُعِدُّ بأن تكون أكثر تخصيصاً لاحتياجات الطّلاب، ممَّا يجعل التّعليم أكثر مرونةً وشموليّةً للجميع.