هل يمكن شفاء الاحتراق الوظيفي؟
إرهاق الموظفين يُفهم غالباً بشكلٍ خاطئ، وكذلك الحال مع الحلول المزعومة لمعالجته. إليك ما يمكن للقادة فعله فعليّاً لمواجهة الإرهاق في مؤسساتهم
الاحتراق الوظيفي، الذي يُعرَف أيضاً بـ Burnout، لم يَعُد مجرّد مصطلحٍ شائعٍ في أوساط الشّركات والمؤسّسات، بل أصبح قضيةً تُؤرِّق الكثير من العاملين، وتُؤثِّر سلباً على الإنتاجية والرّفاهية العامة. وعلى الرّغم من انتشار الحديث عن هذه الظّاهرة، فإنّ الفهم العميق لها، وكذلك الحلول المُقترَحة لمواجهتها، لا يزال غير واضحٍ للكثيرين.
تصاعد الاحتراق الوظيفي: كيف وصلنا إلى هنا؟
تشير الأرقام الحديثة إلى تصاعُدٍ ملحوظٍ في حالات الاحتراق الوظيفيّ. فقد كشف تقريرٌ حديثٌ من منصّة Glassdoor أنّ شهر يوليو شهد ارتفاعاً غير مسبوقٍ في المراجعات الّتي يتحدّث فيها الموظفون عن معاناتهم من الاحتراق الوظيفي، حيث بلغت هذه المراجعات أعلى مستوىً لها منذ عام 2016، وهو العام الذي بدأت فيه المنصّة بتتبّع هذا النّوع من البيانات. وبالنّظر إلى الفترة منذ فبراير 2020، نجد أنّ نسبة الإشارات إلى الاحتراق الوظيفي ارتفعت بنسبة 44%.
لكن ما السّبب وراء هذا الارتفاع الكبير؟ يكمن الجواب في التّغيرات العميقة والسّريعة التي شهدها سوق العمل. فقد شهدنا موجةً من الاستقالات الكبرى الّتي دفعت العديد من الموظفين إلى ترك وظائفهم بحثاً عن ظروف عملٍ أفضل. تلتها موجةٌ من التّسريحات الجماعية والتّوظيف البطيء خلال عامي 2023 و2024، ممّا زاد من ضغوط العمل على الموظّفين الّذين ظلّوا في مناصبهم. وقد عبّر دانيال تشاو، كبير الاقتصاديّين في Glassdoor، عن هذه الظّاهرة بقوله: "هذه الظّروف جعلت من الصعب على الموظفين أن يجدوا الوقت الكافي لاستعادة طاقتهم".
هذه الضّغوط المستمرة لا تُؤثِّر فقط على الحالة النّفسية للموظّفين، بل تمتدّ أيضاً لتُؤثِّر على أدائهم في العمل. تقول إيمي يونغ، أستاذة الاتّصالات التجارية في كلّية روس للأعمال بجامعة ميشيغان، إنّ علامات الاحتراق الوظيفي قد تظهر من خلال تغييراتٍ في سلوك الموظفين مثل التأخّر في الوصول إلى العمل، أو التّأخير في تسليم المهام، أو حتى انخفاض مستوى الطّاقة والاهتمام بالعمل.
العواقب الوخيمة للاحتراق الوظيفي
لكنّ هذه العلامات الأوليّة ليست سوى جزءٍ من الصّورة الأكبر. فالاحتراق الوظيفي يمكن أن يؤدّي إلى عواقب أكثر خطورةً إذا لم يتم التّعامل معه بشكلٍ صحيح. يمكن أن يترك الموظّفون وظائفهم دون سابق إنذار، وقد تتصاعدُ التّوتراتُ والخلافاتُ بين أعضاء الفريق، وفي الحالات القصوى، قد يؤدّي الاحتراق الوظيفي إلى نتائج مأساوية مثل الانتحار. هذا ما حذّرت منه ميليسا دومان، الأخصّائية النّفسية التّنظيمية والمعالجة السّابقة، والّتي ألّفت كتاباً حول كيفيّة التّحدث عن الصّحة النّفسية في أماكن العمل.
ما الذي على القادة فعله؟
إدراك خطورة الاحتراق الوظيفي يدفعنا إلى التّساؤل: كيف يمكن للقادة التّعامل مع هذه المشكلة؟ الإجابة تكمن في تبنّي مجموعةٍ من الاستراتيجيات التي تهدف إلى الوقاية من الاحتراق الوظيفي وإدارته بشكل فعّال داخل المؤسسات.
أولاً، يجب على القادة فهم أنّ الاحتراق الوظيفيّ ليس مشكلةً فرديّةً فقط، بل هو نتيجةٌ لضغوطٍ مزمنةٍ في بيئة العمل. تشير كريستينا ماسلاش، أستاذة علم النّفس الفخري بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، إلى أنّ الاحتراق الوظيفي يُفهم عادةً على أنًه مشكلةٌ صحيّةٌ نفسيّةُ تخصّ الفرد، إلا أنّ الحقيقة غير ذلك. وتوضّح ماسلاش أنّ الاحتراق الوظيفي، وفقاً لتعريف منظّمة الصّحة العالميّة، هو "متلازمةٌ ناتجةٌ عن الإجهاد المزمن في مكان العمل الذي لم يتم إدارته بنجاح".
يحمل هذا التّعريف عدة جوانب مهمة. أولاً، يشير إلى أنّ الاحتراق الوظيفي ليس مشكلةً مؤقتةً يمكن حلّها بسرعة، بل هو نتيجة لضغوط طويلة الأمد تجعل من الصّعب التّغلب عليها. ولكن من الجانب المشرق، يلمّح التّعريف إلى إمكانية إدارة هذه الضّغوط بشكلٍ أفضل إذا تمّ التّعامل معها بطريقةٍ منهجيّةٍ.
إذن، ما هي الخطوات العمليّة التي يمكن اتّخاذها؟ على القادة التّوقّف عن التّفكير في الاحتراق الوظيفي كمشكلةٍ فرديّةٍ تتطلّب حلولاً فردية، مثل توفير الاستشارات النّفسية للموظّفين. تقول إيمي يونغ إنّ هذا النّوع من الحلول قد يساعد في تخفيف بعض الضّغوط، لكنّه لن يكون كافياً ما لم يتمّ إعادة تصميم بيئة العمل نفسها. يجب على القادة النّظر بعمقٍ في هيكلة العمل وكيفيّة تنظيمه لضمان أنّه لا يساهم في زيادة الضّغوط على الموظّفين.
إعادة النظر في عبء العمل وسير العمل
عندما يتعلّق الأمر بمواجهة الاحتراق الوظيفي، فإنّ عبء العمل يأتي في مقدمة العوامل التي يجب مراعاتها. في كتابها "تحدّي الاحتراق: إدارة علاقات الناس مع وظائفهم"، حدّدت ماسلاش وزميلها في التأليف ستة عوامل رئيسة تساهم في الاحتراق الوظيفي: عبء العمل، السّيطرة، المكافأة، المجتمع، العدالة، والقيم. ويأتي عبء العمل في مقدمة هذه العوامل، حيث أنّه العامل الأوّل الذي يتبادر إلى أذهان الناس عند الحديث عن الاحتراق الوظيفي.
في استطلاع للرأي أجرته مجلة .Inc على موقع LinkedIn، رأى أكثر من ثلث المشاركين أنّ تخفيف عبء العمل يمكن أن يكون خطوةً فعّالةً للتّقليل من الاحتراق الوظيفي.
يُعتبَر براين سكانلون، مؤسّس وكالة التسويق Look Left Marketing في سان فرانسيسكو عام 2017، مثالاً للقائد الذي فهم هذه المشكلة بشكلٍ استباقي. منذ البداية، أدرك أنّ تحميل الموظفين بمهامٍ زائدةٍ يمكن أن يؤدّي إلى احتراقهم الوظيفي. لذا، قرّر تحديد عبء العمل بحدودٍ أقل بنسبة 20% عن المعتاد، مما وفّر لموظّفيه مساحةً أكبر للتّنفس والقدرة على التّعامل مع التّغيرات غير المتوقّعة في العمل. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها، حيث حقّقت الشركة إيرادات تجاوزت 3 ملايين دولار في العام الماضي، مع معدلات احتفاظٍ عاليةٍ بالموظفين.
لكنّ التّعامل مع الاحتراق الوظيفي لا يقتصر فقط على تخفيف عبء العمل. تشير يونغ إلى أنّ كيفية تنفيذ العمل تلعب دوراً كبيراً في منع الاحتراق الوظيفي. إذا كان هناك عدم كفاءة في سير العمل، أو إذا كان الموظّفون يقومون بمهامٍ غير ضروريّة، فقد يشعرون بالإحباط. وهنا يأتي دور القادة في تحديد الأولويات بشكل واضح وضمان أن تكون بيئة العمل أكثر كفاءة.
المراقبة المستمرة والاهتمام بالتغذية الراجعة
من المهم أن يدرك القادة أنّ منع الاحتراق الوظيفي ليس عمليّةً تتمّ مرةً واحدةً وتنتهي. بل يجب أن تكون عمليّةً مستمرّةً تشمل المراقبة الدّورية وتحسين بيئة العمل باستمرار. تقول ماسلاش إن الوقاية من الاحتراق الوظيفي يجب أن تكون جزءاً من دورة التحسين المستمرة في أي منظمة، حيث يتوجب طرح سؤال بسيط، ولكنه جوهري بشكل دوري: "كيف تسير الأمور هنا؟ وكيف يمكننا تحسينها؟".
هذه العملية يجب أن تكون تعاونيّة، بحيث تشمل التّغذية الرّاجعة من أعضاء الفريق. في شركة Kungfu.AI التي تأسّست في أوستن عام 2017 وتركّز على الاستشارات الإدارية والهندسية في مجال الذّكاء الاصطناعي، تم إنشاء مجموعة "الأفق" كمنتدى للتغذية الراجعة. تتكون هذه المجموعة من حوالي ستة أعضاء من الفريق، وتتناوب بشكل دوري لتحديد المشاكل المستقبلية وابتكار حلول لها.
في عام 2022، حددت مجموعة "الأفق" مشكلة تتمثّل في أنّ الموظفين كانوا يقضون عطلات نهاية الأسبوع والأمسيات في متابعة تطوّرات الذّكاء الاصطناعي، ممّا عرّضهم لخطر الاحتراق الوظيفي. وبعد فترةٍ قصيرة، تمّ تنفيذ الحل: تمّ تخصيص أيام الجمعة لتكون "أيام مختبر"، حيث يتمّ تخصيص الوقت للتّعلم والتّجربة دون ضغط العمل مع العملاء. هذا التّغيير كان استثماراً كبيراً في وقت الشّركة، ولكنّه ساعد الفريق على البقاء في الطّليعة وتخفيف الاحتراق الوظيفي.
الجهود المشتركة لمنع الاحتراق الوظيفي
في النّهاية، يتطلّب منع الاحتراق الوظيفي جهداً جماعياً، يبدأ من القادة، وينتقل إلى جميع أعضاء الفريق. للقادة دورٌ كبيرٌ في تشجيع الحوارات المنتظمة حول الاحتراق الوظيفي، وتعديل العمليّات لضمان أن تكون بيئة العمل داعمة وليست مرهقة. الرسالة التي يجب أن تكون واضحة ومستمرة هي: "ما هو الهدف الذي نسعى لتحقيقه؟ وما الذي نحاول منعه؟".
نجاح هذه الجهود المستمرة لا يضمن رفاهية الموظفين فحسب، بل نجاح المؤسّسة على المدى الطويل، كذلك. فهم الاحتراق الوظيفي بشكلٍ صحيحٍ واتّخاذ الخطوات اللّازمة للوقاية منه يمكن أن يكون العامل الحاسم في خلق بيئة عملٍ صحيّةٍ ومنتجة.